غزة-نوى:
لم يكن خيّال الشابّ كريم جودة 21 عامًا، قبل ثلاثة أعوام يتسع لحدٍ يُمكنُه من رسمِ صورة لذاته وهو جالسٌ على أحد جبال مدينة نابلس، أو يتجول في شوارع مدينتي رام الله وبيت لحم ليلًا، حتى صار الحلم حقيقة، بعدما استطاع انتزاع حقه بالسفر إلى الشق الآخر من الوطن.
غادر كريم قطاع غزّة باتجاه الضفة الغربية في العام 2015، بهدف الدراسة، ويصف "شعرت بمدى جمال بلادنا، وتمنّيت لو أنّي ولدتُ من جديد في هذه الأرض لأتمكّن من العيش فيها عمرًا جديدًا".
ولا ينكر الشاب شعور الوحدة الّذي سيطر عليه خلال رحلته، لكنه يتلاشى بمجرّدِ لقاءِه بأصدقائه الّذين يشعرونه دائمًا بأنّه بين أهله، برغم الظروف السياسية التي تفصل غزّة عن باقي المدن الفلسطينية.
لا يزال سكّان قطاع غزّة محرومين من حقّهم في حرّيةِ الحركة، ويعانون بشكل كبير جرّاء القيود المفروضة على تنقّلاتهم عبر جميع المعابر الّتي تصل القطاع بالعالم الخارجيّ والضفّة الغربيّة وإسرائيل.
على عكس جودة كانت الصّحافيّة غالية حمد 26 عامًا، فيقينها الكبير بقدرتها على تحقيق حلمها برؤية أرضها المحتلّة، جعلها تمسّك الدّفتر منذ الصغر، وتدّون فيه كلّ ما يرويه جدُها عن معالم قريتها المحتلّة المعروفة باسم "المغار"، لأنها أحبّت معرفة كلّ تفاصيل الحياة بها.
هذا الموقف وغيره زاد من ارتباطها ببلدها المحتلّ، ورفع من حدةِ شغفها لرؤيته، فسعت لتحقيق حلمها طوال السنوات الماضية، إلى أن تمكّنت من ذلّك فعليًّا قبل عام تقريبًا للمرّة الأولى تبعها مرّتين أخريات، وكانت جميع الزّيارات بغرض التغطية الصحفيّة.
تقول حمد لـ "نوى": "من الصعب عليّ تقبل اللّحظات الأولى لزّيارة فلسطين المحتلّة بسهولة، تمنيتُ لو كان أحدٌ من أهل غزّة معي ليشاركني شعوريّ الدهشة والبهجة"، مضيفةً "الفرح رافقه غصّة، تمثّلت بمشاهدةِ آلاف الدونمات الفارغة، وفي المقابل نحن نعيش في غزّة الضيّقة المكتظّة بالسكّان، والملايين الآخرين من أبناء الشّعب مشرّدين في الشّتات".
باب العامود أول المحطّات الّتي زارتها غالية في رحلاتها الثلاث، فهو من وجهةِ نظرها بوّابة السّماء الّتي صعدت منه أرواح الشّهداء الطاهرين الّذين ارتقوا في جنباتِه على يدِ قوّات الاحتلال.
ويتفق الغزّيون المغتربون داخل حدود الوطن وخارجه على أنّ المكان الأكبر في قلوبهم لغزّة وأهلها، فصوت هدير بحرها لا يفارق سمعهم، والحنين دائمًا يأخذهم لها.
أما الشاب محمّد البريم 27 عامًا فحاله مختلفًا قليلًا فلم يكن جدُّه من يحدّثه عن جمالِ الأرض المحتلّة، لأنه كان دائم الاتصال بأهل فلسطين المحتلّة الّذين خبرّوه حكاياتها، فأصبح عقله وقلبه معلّقان بكلّ حبّة تراب فيها، لدرجة أنّ حياته قُسمت بين معايشة أهله وأصدقائه واقعيًا في غزّة، وبين التّواصل عبر الوسائل المختلفة مع الدّاخل المحتلّ.
يتحدث محمّد "سافرت لمعرفة ماذا يعني أنّ يرى الجيل الجديد أجزاء من وطنه المحتلّ؟ هذا السّؤال المراود لي منذ عشر سنوات"، موضحًا أنّ هذا التّساؤل كان مرافقًا لشوقٍ كبير، انطفأت ناره مع أولِ صلاة في المسجد الأقصى ورؤية البلدة القديمة في مدينة القدس المحتلّة.
ويجد البريم الذي غادر للضفّة المحتلّة قبل أشهرٍ قليلة فقط بحثًا عن حياةٍ أفضل، صعوبةً في التعبيرِ عن شكلِ الاستقبال الجميل والحفاوة الّتي حظيّ بها من قبل حراس الأقصى وأهل القدس، يكمل "نحن شعبٌ واحد والجميع هناك أهليّ، فلم أشعر بالغربة مطلقًا، وعشت هناك ضمن أجواء عائليّة جميلة برفقةِ أصدقائي الّذين كنت أتواصل معهم طوال السنوات العشر الماضية".
وبالنسبة للشابّة سميرة انشاصي 25 عامًا من غزّة فقد تمكّنت من زيارة الضفّة المحتلّة لمدّةِ أسبوع واحد بداية العام الجاري وهي الزيارة الأولى لها منذ أن وجدت في هذه الحياة.
تقول سميرة: "سافرتُ للمشاركةِ في تدريبٍ مع مؤسّسةٍ مقدسيّة، إضافة لزيارةِ أهل والدتي في الضفّة الّذين لم ألتقَ بهم منذ عشرين عامًا"، مؤكّدةً أنّ لحظة وصولها لفلسطين المحتلّة، ومعانقةِ ترابها هي أجملِ لحظاتِ حياتها لاسيّما وأنّها ترافقت مع رؤية الأهل والأحبّة.
وتخالف انشاصى البريم بشعور الحنين الكبير لباقي أجزاء الوطن كونها كانت فاقدة الأمل في فرصةِ السّفر للضفّة الفلسطينيّة ورؤية الأراضي المحتلّة.
تضيف لـ "نوى": "استقبال أهالي الضفّة والقدس لي كان لطيفًا جدًا ووجدت ترحيبًا كبيرًا منهم"، مبيّنةً أنّها حرصت بدايةً على زيارة المسجد الأقصى والأماكن التاريخيّة والدينيّة المختلفة إضافة لزيارة الأهل في مدينةِ نابلس، تردف: "حين تجولتُ في شوارع القدس وأسواقها وعلم من هناك أنّي غزّية اختلف الحال كثيرًا لأسمع كلمات الحُبّ والوُدّ والأمنيات الجميلة".
يسمح الاحتلال بالخروج من القطاع، لفئات معينة عبر حاجز "إيرز"، وهم المرضى ومرافقيهم من ذويهم، والتجار، وعدد قليل من أصحاب الحاجات خاصة، والموظفين العاملين في المنظمات الإنسانية الدولية، والمواطنين المسافرين للأردن عبر جسر اللنبي، إضافة لعدد من ذوي المعتقلين لزيارة أبنائهم في السجون الإسرائيلية وكذلك عددًا من كبار السن للصلاة في المسجد الأقصى، وذلك في ظل إجراءات أمنية معقدة.