الصياد بكر .. الغائب الحاضر
تاريخ النشر : 2017-05-27 10:57

دعاء شاهين-نوى

"مش متقبلة أنه محمد راح وتركنا، جسده مات بس روحه ضايلة وخياله بين أركان البيت" بصوت حزين ودموع، وحنجرة اختنق فيها الكلام، بدأت مرام بكر 22 عامًا حديثها بعد الانتهاء من مراسم توديع زوجها الصياد "شهيد لقمة العيش" كما وصفه أهالي قطاع غزة.

قتل الصياد محمد بكر 25 على أيدي جنود الاحتلال المتمركزين في الزوارق البحرية الإسرائيلية قبالة ساحل غزة، بينما كان يمارس مهنة جابه فيها الأمواج وركب البحر ولم يجابه الآلة الإسرائيلية، فترك مهنته مغمسًا بالدم.

كان يحلم الصياد وزوجته في بناء حياة جميلة برفقة طفلتيهما جود وماجدة اللّتان لم تتجاوزا العامين من حياتهما، وكانت ضحكاتهما مع والدهم تملأ أرجاء المنزل دفئًا حتّى أتت رصاصات قناصة الجيش الإسرائيلي لتبدّد حلم محمد تاركًا عائلته تصارع ألم الحياة.

تروي مرام: "في الليلة التي قتل فيها زوجي قبل ذهابه للعمل، قبّل طفلتيه وألقى نظرة حزينة جعلتني حينها أشعر بشيء ما راودني، وكأنها نظرة وداع ولن نراه بعدها"، مشيرة إلى أنها لم تنم بعد خروجه تلك الليلة، حيث سيطر القلق عليها على غير العادة، حتى دقت عقارب الساعة الثامنة صباحا فباغتني خبره، "لم أتذكر حينها سوى أني صرخت وأغمي علي من هول الصدمة" تقول الزوجة. 

ترعرع محمد على شاطئ البحر ونمى على ساحله ممتهنًا الصيد منذ صغره، فكان يذهب مع والده إلى البحر للصيد، برغم تعرضه سابقا للاعتقال لأكثر من مرة على أيدي قوات البحرية الإسرائيلية، وتخريب قاربه الذي كان يكلفه ثمن إصلاحه أكثر مما يحصل عليه من عمله إلا أنه استمر في عمله حتى قتل، حيث كان يصر على حصوله على أكبر كمية السمك وببيعها في سوق "الحسبة" وهو مكان معروف لبيع السمك بأنواعه لأهالي القطاع.  

اعتداءات كثيرة يتعرض لها الصيادون الفلسطينيون في قطاع غزة أثناء عملهم في الصيد، بهدف التضييق عليهم ومنعهم من ممارسة حقهم في العمل، بل و محاربتهم في وسائل عيشهم وأفراد أسرهم.

وحسب إحصائية لجان عمل  الصيادين منذ بداية العام الحالي 2017،  تعرض 27 صياد لإصابات بشكل مباشر، وتم تدمير 14 قارب بشكل كلى وجزئي،  وسرق المئات من شبكات الصيد، كما أعتقل 5 صيادين، وتعرض 2 للقتل.

والد محمد الذي كان مرافق ابنه في رحلة الصيد، تحدث مفجوعًا عن الحادثة قائلا: "بينما كان يجهز محمد لرمي شباك الصيد في البحر قبل مساحة الستة ميل التي تفرضها قوات الاحتلال، قامت الزوارق الإسرائيلية بإطلاق نيران رشاشاتها عليه مباشرًا حيث أردته قتيلًا".

وبحسب والده، فقد أشار أنه تعرض وابنه مرات عديدة للاعتقال والإصابة، كما إطلاق النار على القارب بشكل مستمر، مطالبًا مؤسسات حقوق الإنسان بالبحث في الحادثة والدفاع عن الانتهاكات التي يتعرض لها الصياد الغزي من قبل الاحتلال الإسرائيلي بهدف حرمانه من حقه في العمل وتوفير قوت يومه.

لم يتوارى الحزن عن زوجة محمد فتتذكر صوته، وهو يحدثها عن تحضيراته للشراء أغراض شهر رمضان، وفانوس لابنتيه، تفاصيل لم تغب عن مسامعها فما زالت ذاكرتها منعشة بذكريات موائد رمضان التي كانت تتشاركها  مع زوجها في تحضيرها منذ أربعة أعوام من زواجهما، لكن في هذا العام الموائد يتيمة بسبب موت محمد.

تتابع أن زوجها كان يردد دائما مقولة "سأموت شهيدا" فكان شديد التوصية على طفلتيه اللتين حرمهما الاحتلال من العيش بين كنفه، فكان يأخذهم لمدينة الألعاب باستمرار وطالما طمح تعليمهن في أفضل المدارس ودعمهن لاستكمال مسيرتهن التعليمية التي حرم منها.

"بابا لساه نايم ما صحي" لا تنفك الطفلتين عن ترديد العبارة، لا تزال تترقب والدها في كل صباح وتبحث عنه كي يذهب إلى عمله، ويعود لها بسمكة كما اعتادت عليه في الماضي، ولكن دون جدوى. إسرائيل قتلت الأب، وذهب إلى لا عودة.

رغم ما نصت عليه اتفاقية أوسلو (معاهدة السلام الموقعة عام 1993)، وما تبعها من بروتوكولات اقتصادية، على حق صيادي الأسماك في قطاع غزة، بالإبحار لمسافة 20 ميلاً، بهدف صيد الأسماك، إلا أن ذلك لم ينفذ منذ 15 عاما، ممعنا في تضيق الخناق على الصياد الغزيّ حتى باتت هذه المهنة تعني له الموت المحتوم.