في قضية العملاء: إعلامٌ قاصر وأخلاقيات مفقودة
تاريخ النشر : 2017-05-25 11:27

ها قد اُسدل الستار على فصول قضية مقتل الأسير المحرر مازن الفقهاء، بعد أن تم تحديد موعد تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة عن المحكمة العسكرية العاجلة والسريعة، والتي للأسف اعتبر أحد الاعلاميين سرعتها عنصراً ايجابياً في تحقيق العدالة!، سيعود الاعلاميون للبحث عن قضية أخرى يمارسون من خلالها  مهنتهم الصعبة والخطيرة، دون أن يتعلموا من تجاربهم وأخطائهم، دون أن يُخضعوا ممارساتهم مع هذه النوعية من القضايا تحديداً للتقييم والتحليل واستخلاص العِبر، ليمارسوا ذات الأخطاء في قضايا مستقبلية مشابهة.

قضية العملاء كشفت سقطات مهنية كُبرى للإعلاميين، ما تم ممارسته في هذه الوسائل كان يتأرجح بين تغطية ومعالجة إعلامية اتصفت بأحادية الرؤية، وأحادية زاوية التناول، كما اتصفت بالشعبوية، والجهوية،  كذلك ببعدها بدرجات متفاوتة عن خطاب حقوق الانسان والنهج القائم عليه، أصابتها حُمى المصادر الخاصة والمطلعة، وممارسات تأجيج الرأي العام، وبتدخل النائب العام والقضاء في  العمل الاعلامي إيجاباً وسلباً في هذه القضية تحديداً، واتساق العاملين في الإعلام بسلبية بغيضة مع هذا التدخل، وبخلط التحليلات الشخصية بالمعايير المهنية، وأخيراً لا معالجات حقيقية في الإطار.

هذه التجربة المهنية المريرة لا يجب أن تمرّ مرور الكرام، فمنذ اليوم الأولى لاشتعال حُمى التغطية الاعلامية للقضية وانتشار الشائعات فور انتشار خبر مقتل الفقهاء، خرج النائب العام بتهديد للعاملين في الاعلام ونشطاء الإعلام الاجتماعي بضرورة الصمت، وأرى أنه لولا هذا الردع لاشتعلت منابر الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بالأكاذيب والدسائس لتنال القصص المؤلفة عن مرتكبي الجريمة أشخاصاً وعائلات، ثم جاء موعد المؤتمر الصحفي الذي أطلَ فيه السيد اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس من أمام مكان الجريمة ليعلن عن اعتقال الجُناة، وينطلق السباق الحثيث للكشف عن هوياتهم ومعلوماتهم الشخصية وكلنا رأى صورة البطاقة الشخصية ل (أ.ل) قبل أن تُعلن الاسماء والاعترافات في مؤتمر خاص بوزراة الداخلية لتأتي المصائب تباعاً بعدها في الكشف عن هوياتهم الحقيقة وصورهم ومهاجمتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي على صفحاتهم الشخصية، وللأسف شارك بعض الاعلاميين بآرائهم الشخصية في خطاب الكراهية هذا بدلاً من المشاركة في تعزيز مفاهيم السلم الأهلي، بل تفاخر بعضهم في استباق الإعلان عن اسمائهم وهوياتهم والمعلومات الخاصة والشخصية المتعلقة بحياتهم الأسرية والعملية.

أحدهم تحدث وفقا لمصادر مطلعة أن الحكم على ثلاثتهم سيكون اعداماً، رغم أن المحكمة لم تكن أنهت جلساتها بعد! وكأن المطلوب هو توجيه الرأي العام وقيادته كقطيع نحو هدف واحد (تماماً كما تفعل الدعاية السوداء بالجمهور)، وقد تساءلت: ماذا عن نزاهة المحاكمة بعد هذا الخبر؟،  ثم جاء آخر ليؤكد على أهمية نبذهم، مع مطالبات خجولة بالرأفة بعائلاتهم، بدت الأمور أحياناً كثار شخصي، ليتسم الاعلام بهذا الدور بالشعبوية والجهوية دون توجيه رسائل تحمل روح حقوق الانسان، وكأن دور الاعلام هو الاتساق مع الحيز العام وليس تنويره!، لم يعالج أي إعلامي هذه القضية بطريقة مناسبة، لم يتطرق أحد لتناول الأثر النفسي والمجتمعي على عائلاتهم مثلاً، لم يتناول أحدهم سلامة الاجراءات القانونية وخطورة المحاكمات السريعة، لم يتناول أحدهم مفهوم العدالة وضرورة تحقيقه للمتهمين في جميع القضايا.

في مشهد آخر، خلال اقتياد المدانين من وإلى المحكمة في جلسة النطق بالحكم، التقط الصحفيون الصور ونشروها بحجة أن القاضي سمح بذلك، ولا أعلم ماهي مبررات وغاية القاضي من ذلك، وهل بالفعل سمح بذلك؟، وكيف يمكن النشر دون حجب الملامح الشخصية، في مجتمع حساس جداً لهذه القضايا؟، ثم يأتي تقريرٌ حول طلباتهم الخاصة، بأسلوب وجدته تهكمياً في بعض الفقرات، ولا أعلم ما القيمة المضافة للقارئ عند معرفة هذه التفاصيل الخاصة؟، نسيّ "الجهابذة" أن ما يهم هنا هو حقوق هؤلاء الأشخاص في محاكمات مدنية عادلة، في احترام خصوصياتهم، وليس اشباع تطفل الجمهور، وأن مهنتهم ومهنيتهم على المحك في ظل كل هذه الممارسات الخاطئة.

نشتكي دائما كصحفيين من عدم قدرتنا على الحصول على المعلومات وعدم وجود قانون يكفل هذا الحق، لكن في القضايا الكبرى ترى الاعلاميين المقربين من الجهات المسؤولة يقذفون للجمهور معلومات قليلة ومركزة ومُنتقاه لتوجيهه، ثم يُقال تسريبات من مصادر خاصة أو مطلعة، لا أعلم لمَ لا تساعدنا هذه المصادر في القضايا المجتمعية المختلفة وقضايا الفساد مثلاً؟، لماذا لا يستخدم المقربون ذات المصادر للكتابة عن ظروف التحقيق والاعتقال والمحاكمة مثلاً؟ ولماذا يرى كل هؤلاء الحقيقة بنصف عين وينتجونها وينشرونها بذات نصف العين ليضمنوا تأييداً شعبيا من القطيع / الجمهور لقرارتهم.

أعلم أنه لا قانون مُلزم بمنع النشر للأسماء والصور في هذه القضايا، لكني أصرّ على أن القانون الأخلاقي داخلنا هو من يحكم ممارساتنا كمواطنين وعاملين في الإعلام، لهذه المهنة قواعدها وأخلاقياتها وعلى العاملين فيها امتلاك مهارات تقدير الظرف العام عند كل قضية، مجتمعياً وقانونياً وحقوقياً وعلى رأس كل ذلك أخلاقياً، للخروج بتغطية ومعالجة مهنية توفر الفهم والتنوير للجمهور، إن من أختار العمل بهذه المهنة يعلم ويؤمن بأهمية موقعه، ويوقن أنها مؤثرة بلا شك على الجمهور، وأن عليه الكفّ عن ممارساته الملتوية المدفوعة بمُلاك الوسائل الإعلامية وأيدلوجياتهم المختلفة، فلنمارس هذه المهنة بأخلاقياتها.