الهاربات من الموت
تاريخ النشر : 2014-07-28 20:45

 غزه - نوى " هدايه شمعون " لم أكد أخذ نفس آخر حين لكزني الجنين حتى انتفضت واقفة أهرب لركن الغرفة الآخر حين باغتني صوت انفجار صاروخ إسرائيلي على بعد أمتار معدودة.. صرخاتي غابت مع شدة الصوت وتناثر الحجارة على سطح بيتني الأسبستي..!! ألم شديد ومغص تملكني وبدأت أهذي يارب نجني وطفلي.. كان زوجي قد قفز هو الآخر وحمل الصغيرتان ليان ورغد ووقف مذهولا من شدة الانفجار.. كنا نحدق ببعضنا البعض لا أذكر حينها كنا نتشاهد( الشهادتان) أم يودع أحدنا الآخر.. كانت دموعي تسيل على وجهي والصغيرتان من شدة الرعب كأن خرسا أصابهما فقد كانتا نائمتان.. بالكاد رأينا بعضنا من شدة الدخان الذي ملأ بيتنا الصغير وهنا كأنما أفاقت الصغيرتان ولم تتوقفا عن الصراخ والنحيب، كنت اشعر بالماء يسيل مني ولكني لم أجرؤ أن أخبر زوجي بأنني في حالة حرجة ونفسي بدأ يضيق، توقف دمعي فجأة عن السيلان حين دق الجيران بقوة على بابنا المهترىء.. أخرجوا أخرجوا.. انجوا بأنفسكم الغازات تملأ المنطقة.. لم نفهم بقينا كحجر تشبع من الشمس فبات صخرة لا يسهل نحتها.. وكأنا من عالم آخر شعرنا أننا خارج روحينا وأن أجسادنا لا تصغي لنا.. كنا نريد أن نفعل ما يقولوا لكنا كأنما تيبسنا في دارنا..

بثواني كنت أحدق في الدار ذات الغرفتين وصالة صغيرة وحمام ومطبخ بالكاد تسترنا.. لم نسدد بعد ثمن قطعة الأرض التي بنينا عليها البيت.. لم نكد نزرع ونحصد كعاملين في الأراضي الزراعية من حولنا ونعيش بقوت يومنا.. كان لدي مئتي دولار بأكملها كنت أحوشها منذ بداية العام لميلاد طفلي الجديد.. كسوته فقد حرمت طفلتاي من كسوة تليق بهما نظرا لوضعنا المادي..

لا أذكر أين وضعت النقود أذكر فقط أن قذيفة أخرى قد التهمت جدار البيت ونحن واقفان كمجنونان فقدا حياتهما وهما لازالا متشبثين ببقايا الروح.. كتلة من اللهب تحولت إلى شظايا في أنحاء البيت.. الجدار انهار بأكمله وشيئا ما اشتعل كنت لازلت في ركن الغرفة أمسك بطرف خزانتي الخشبية وزوجي يحدق في وجهي على باب الغرفة..

.. عادت لنا روحينا ووجدنا أنفسنا وسط الصراخ والصياح من الجيران والطفلات نركض لا نعرف بأي اتجاه.. كنا نجري فالغاز الأبيض يملأ المكان والعتمة تحيل ما تبقى من أمل بالحياة إلى سراب.. تخيلت أننا نجري باتجاه الدبابات فوقفت ووقعت وأنا أصيح، وقعت ابنتي الصغيرة من أبيها من شدة الارتباك والخوف والموت المتطاير حولنا.. ولمحنا صراخا دلنا إلى اتجاه الناس كانوا يرشدون بعضهم البعض بالصوت بعد ان غابت الصورة عن الجميع، كبار السن يهرولون يقعون ومئة يد تمسكهم، تشبت بإحدى صغيراتي وأمسكت بطرف قميص زوجي وبطني مدلى أمامي لم أعد أفهم كيف قدماي تتقدمني.. كيف يمكن أن نخرج من هذا الموت.. انفجار آخر يعلو الصياح .. وبيتي يمشي معي أشعر أني أحمله احمل خزانتي الخشبية المتكسرة وملابسي البسيطة وأحمل في ركضي ابنتي وفرشاتي الأربعة تلك التي ننام عليها وأربع مخدات وأواني المنزل القليلة كلها احمله على رأسي الآن..

فجأة شعرت بثقل كبير وحاولت أن أعيد تصفيف ذاكرتي وبقايا جسدي لكني وجدتني احمل بيتي بأكمله بسقف الأسبستي وجدرانه التي بنيناها يدا بيد.. وحملت بيوت جيراني وشارعنا الكبير.. وتلك الأشجار على الصفين..!! أفقت فجأة على ضرب عنيف في بطني ..بدأت أتأوه رغما عني، لم أجرؤ وتحاملت على نفسي فالكل يفر من جانبنا وأمامنا.. وبدأت غشاوة الغاز الأبيض تختفي فرأيت النساء والأطفال والصراخ والكبار يحيط بالجميع لا أحد ينظر في وجه أحد الكل يحتفظ بدموعه ويجري لا نعرف إلى أين فكل أقاربنا وأحبابنا بجانبنا لا نعرف من بقي حيا من مات من أصيب.. مرة أخرى شعرت بتعب لا حدود له وأدركت أني عارية القدمين والدماء تسيل منهما بعد أن داست على الحجارة والأسلاك الحديدية..

ابنتي لوعت قلبي ببكائها ووقفت ..لكزني زوجي واقترب وأخذها مني ووقفت وأخذت أبكي بشكل هستيري سألد هنا ..سألد في الشارع أشعر بالجنين.. الماء يتدفق.. أحاطتني الأيدي ..تماسكي كدنا نصل ..لا توجد عربات ولا سيارات ولا شيء ..مشينا كيلومترين واكثر ولم نصل بعد..كان الصبح قد بدأ يبزع .. وقررت أني سأعيش وأني سألد ولن يموت جنيني هنا .. في الشارع كابرت وتحايلت على طاقتي وعلى كل شيء.. الموت المنتشر من حولنا جعلني خائفة والخوف جعلني اتماسك قليلا ..ووصلنا إلى أحد مراكز الإيواء وحينها مادت بي الأرض ما أن وصلنا ووقعت في إغماءه بعد صراخ عنيف من الألم.. عرقي كان يتفصد من كل جسدي كنت كقطعة قماش مبللة واجهت رياحا عاتية هكذا هن النساء وقت الولادة على شفا حياة/موت.. كنت أهذي بأسماء بناتي وبيتي غرفة غرفة ركن ركن ..كنت ما بين الوعي واللاوعي ووجه ابنتاي حولي يتمسكن برقبتي وشعري وابتسمت لهما ثم ذهبت بعيدا ..

فيما بعد عرفت أن سيارة الإسعاف قد حضرت وحملوني إلى المشفى وولدت صغيرتي وأسميتها فلسطين فقد شعرت بحضنها يأخذني من كل الموت والألم وعانقتها كثيرا..

عدت والآن أمكث في بيت الإيواء على فرشة إسفنجية بإمكانكم أن تأتوا لزيارتي كي تعرفوا انكم لم تعرفوا كيف يمكن لامرأة فلسطينية أن تكون وطن وقت الحرب وأن تكون بيتا وقت الحرب وأن تكون ذاتها وقت الحرب وأن تبقى وتعيش وتناضل ..النساء تقاوم النساء تناضل النساء يحملن بيوتهن في قلوبهن وأطفالهن.