دير البلح- شيرين خليفة:
على باب خيمةٍ صغيرةٍ تجلس الحاجّة هاجر سمحان (68 عامًا) تصنع إبريقًا من الشاي مستعينةً بموقدِ نارٍ بدائيٍ أشعلته ببعض أعواد الحطب، تشير إلى رفيقتها الجالسة وحدها في الخيمة قائلة "هذه ضرّتي، بل رفيقتي التي عشت وإياها وحدنا مأساة النزوح، فنحن لم ننجب أبناءً وليس لنا إلا الله".
تعيش السيدة هاجر ورفيقتها في خيمةٍ دائرية الشكل، بمخيمٍ للنازحين في منطقة المشاعلة غرب دير البلح وسط قطاع غزة، تجرّعت الرفيقتان معاناة النزوح من بلدة بني سهيلا شرق محافظة خانيونس جنوب القطاع، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع يوم 7 اكتوبر 2023م.
تشير هاجر إلى القليل من الملابس والأغطية المصففة داخل الخيمة قائلة: "هذا الذي خرجنا به يوم نزوحنا".
منذ بداية الحرب، أجبرت المسنّتان على النزوح من بيتهنّ على عربة يجرها حمار كانتا تملكانه، ومعهن زوجهن الذي توفي لاحقًا بسبب الحرب، تعقّب هاجر: "نزحنا إلى مدينة خانيونس بداية ثم إلى خيمةٍ في رفح، برفقة زوجنا البالغ من العمر 84 عامًا وكان مريضًا جدًا، تدهورت صحته بسبب الحرب حيث أصيب بسوء التغذية وفقر الدم، ونقلناه إلى المستشفى، عاد معنا إلى الخيمة وتوفي فيها منتصف عام 2025م".
عاشت السيدتان الحزن على فقدان الزوج، ثم اضطررن في مايو 2024م إلى النزوح مجددًا من رفح عندما أجبر جيش الاحتلال الإسرائيلي المدنيين على ذلك، خرجتا إلى الشارع الرئيسي سيرًا على الأقدام مسافة طويلة بعدما سُرق حمارهن الذي اعتمدن عليه في النزوحين السابقين، لم يحملن سوى ملابسهن، اتصلت هاجر بشقيقها الذي أرسل ابنه ليساعدهن في الانتقال إلى دير البلح وإقامة خيمتهن هناك.
"عيشة الخيم مرار في مرار"، تقول هاجر، بينما تصمت قليلًا لتصبّ كأس الشاي لرفيقتها وهي تتمتم "ملناش إلا بعض، بنجاهد في الحياة مع بعض".
تستطرد: "في حياة الخيام إذا اجتهدنا سنأكل، وإن بقينا مكاننا فلن نأكل، ناهيك عن إيقاد النيران بالحطب أو الكارتون".
في الصباح تذهب هاجر لملء جالون المياه الخاص بهن عندما تمر سيارة مياه الشرب على المخيم، ثم تبحث عما تيسّر من أعواد خشب وكارتون تشعل به موقدها الصغير لتحظى بكوبٍ من الشاي مع رفيقتها، تعقّب :"وضع الكل صعب لا أحد يستطيع شراء شيء".
قبل الحرب كانت هاجر تعمل في تربية الطيور وتبيعها في السوق، إلى جانب امتلاكها نعجتين تنتفع بالحليب منهن، تحصل على مبلغٍ يوميٍ يمكّنها من توفير طعام العائلة لثلاثة أفراد، هي ورفيقتها وزوجهن، لكن الآن كما تصف :"الحال ضيق على الجميع ما حد قادر يعيش".
تكمل :"أذهب بنفسي لجلب مياه الشرب والبحث عن خشب وأحيانًا أشتري إن توفر معي بعض المال، وأحيانًا يفتقدني أبناء إخوتي، (بيحاولوا يساعدوني رغم ضيق حالهم)".
"أنا ورفيقتي صحتنا مش منيحة من أول الحرب"، تقول هاجر وهي تضغط بقوةٍ على عينيها فتبرز تجاعيد وجهها المنهك، وتكمل: "أعاني ارتفاع ضغط الدم ورفة على القلب والغدة، انقطعت عنّا الأدوية لفتراتٍ طويلة، دواء الغدة منقطع تمامًا منذ ستة شهور حتى الآن وأعاني بشدة، أشعر أنني في حالة هزال وتعب دائم ولا أستطيع المشي (تعبانة جدًا)".
بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ يوم 11 أكتوبر 2025م، بدأت بعض البضائع بالدخول إلى قطاع غزة لكنها شحيحة ومرتفعة الثمن، تقول هاجر :"لم يصلنا منها شيء عبر المساعدات والمتوفر في السوق لا يناسب حالتنا فنحن لا نمتلك المال، حتى الجمعيات التي توزع لا تشملنا دومًا فلا يوجد عدالة في التوزيع".

تبتسم وهي تستدرك :"قبل مدة حصلت على طردٍ غذائيٍ وحصلت رفيقتي على طردٍ صحي، طردين كويسين عايشين عليهم بنمشّي حالنا فيهم، ولا نستطيع التسجيل الإلكتروني لدى المؤسسات فأنا معي جوال قديم (كشاف) ولا أعرف كيف يستخدم الجوال الحديث فلا أستطيع التسجيل".
تتجاذب هاجر أطراف الحديث قليلًا مع ابن شقيقها الذي حضر للاطمئنان عليها، فخيمته قرب خيمتها، تذكرت فترة المجاعة التي اجتاحت قطاع غزة وهي تعقّب: "انقطعت أنا ورفيقتي من الدقيق كما وعشنا المجاعة، لكن ابن شقيقي الذي كان يطارد شاحنات المساعدات كما غيره من الشبان جلب لنا الدقيق أكثر من مرة، وحصلت بعدها على طردٍ صغيرٍ كان يحتوي على كيلوجرامين من السكر، كنت أستخدم السكر بالقطارة كي لا أنقطع، ورغم قسوتها مرت كما مرّ غيرها من صعاب".

تنظر هاجر إلى الخيمة الصغيرة التي بدأت تجف من مياه الأمطار التي أغرقت المخيم خلال المنخفض وهي تحاول المقارنة بين بيتها الذي تدمّر في بني سهيلا، والخيمة الضيقة التي بالكاد تسترهما، وتقول: "بالكاد أستطيع التحرك، أجلس على باب الخيمة أنتظر طعام التكية، هزلانة وتعبانة طول النهار بلا سبب".
تقرّ هاجر بأن رعب الطيران يسبب لها الأرق، ومع ذلك فهي وصلت لقناعة أنه لن يحدث لها إلا ما كتبه الله، حتى إنها في الصيف كانت تنام على باب الخيمة، "رغم وجود طيران الكواد كابتر والاستطلاع كنت أنام على باب الخيمة درءًا للحر، الناس بتخاف صح بس سلّمت أمري لله".
لم تخل الدردشة مع الحاجة هاجر من ذكريات حرب 1967م، حين كانت في العاشرة من عمرها، حينها جاءهم قرار النزوح وشقيقها في المدرسة يقدم امتحان الصف الثالث الإعدادي، وهنا تأخرت والدتها كي تنتظر عودة ابنها من المدرسة، فنزوحوا إلى مواصي خانيونس ثم إلى دير البلح، لكن تستدرك: "النزوح وقتها مش زي هذا النزوح، كان سريعًا ورجعنا وصرنا تحت الاحتلال الإسرائيلي".
تبتسم وهي تشرب الشاي وتتمتم "الحياة حلوة بس نفهمها"، ثم أعادتها مع نغمة خفيفة وابتسمت مضيفة: "أكثر من مرة قصفوا قريب منّا، لو ربنا كاتب نموت بنموت".
تختم بابتسامة عريضة :"كل ما أتمناه أن يغير ربي الحال ويهدّي البال، وكل واحد يرجع على داره أو حتى أنقاض داره".



























