غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"أمانة طلعوني من الفرن" تقول الطفلة حنان عقل وتصرخ باكية. لقد خرجت لتوها من غرفة العمليات في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح وسط قطاع غزة، بوجهٍ بالكاد يمكن أن تميز ملامحه، بعدما احترق بنيران صاروخ!
منذ الخامس من يونيو/ حزيران الماضي، تغير معالم وجه حنان (9 أعوام)، في تلك اللحظة التي ذهبت فيها ركضًا فرحةً بمصروفٍ أعطاها إياه جدّها لشراء الحلوى من الدكان القريب من الحاصل الذي نزحت إليه العائلة في مخيم البريج، بعد إخلاء مدينة رفح جنوبي القطاع.
تروي والدتها، التي تبكي على حالها: "قصفٌ هز أرجاء المكان استهدف بيت الجيران. بناتي حولي إلا حنان، كنتُ أجهز المياه للاستحمام، لكنني تركتُ النار والماء، وركضت كالمجنونة أصرخ وأنادي حنان، ولا أحد يسمعني".
في لحظة القصف، كان والد حنان وعمها في الخارج، يركضان بين جثث الشهداء والمصابين، فعلّق الاثنان على طفلةٍ مصابة تحاول تنتشل نفسها من بين الركام دون جدوى! بسرعةٍ دخلا إلى البيت ليطمئنا على من فيه، فإذا بالأم تخبرهما أن حنان ليست هنا.
تضيف: "بسرعة، عادا بالذاكرة إلى تلك الطفلة، وهرعا إلى الخارج دون أن يفصحا عن أي تفاصيل"
وصلا إليها، وسألها عمها: "إنتي حنان يا عمو؟" فأجابته: "آه يا عمو أنا حنان". لم يعرفها والدها! لقد شوّه الصاروخ معالم وجهها وجسدها، الأنف ذائب باتجاه الفم، ومعظم الوجه محترق!
على عربة يجرها حمار نقلها والدها وعمها إلى المستشفى، وفي الطريق كانت حنان لا ترى شيئًا، لكن قلبها كان يسمع بكاء والدها، فقالت له من عمق إصابتها الخطرة: "بابا أنت بتعيّط؟ ما تعيطش أنا بخير".
كل ذلك ووالدتها لا تعلم شيئًا، هل ابنتها حية؟ مصابة؟ أم شهيدة؟ بمحض الصدفة سمعت صوت عمها "حماها" وهو يتحدث عبر الهاتف ويتساءل: "وين إصابتها؟ في وجهها".
تخبرنا الأم: "تفاصيل وجه عمي لم تكن توحي بأن حنان على قيد الحياة، فصرختُ أسأله: حنان ماتت؟ أمانة حنان راحت؟ ثم أغمي علي"، مضيفةً: "حين أيقظوني أخبروني أنها بخير، لكن إصابتها في وجهها".
في غرفة العمليات مكثت حنان ثلاث ساعات، أجرى لها الأطباء عملية ترميمٍ للأنف بعدما كانت تعاني من كسرٍ وقطعٍ كاملٍ للأنسجة والغضاريف، وقد لُفَّ معظم جسدها بالشاش، بينما مُنعت أمها من رؤيتها في اليوم الأول لخطورة وضعها الصحي.
تتابع: "حين خرجَت من العملية، رأيتُها لأول مرة، لم يظهر من وجهها سوى فمها، كان وجهها منتفخ كثيرًا، وبعدّة ألوان من شدة الحرق". تعقب: "كانت حروق من الدرجة الثالثة".
تبدّلت الأدوار فأصبحت حنان هي من تُطمئِن والدَيها على حالتها، "وحين رأيتُها بكيتُ كثيرًا، سمِعَت صوتي فقالت لي "ماما ماتعيطيش أنا بخير والله" تزيد.
تبقى حنان في طابور الانتظار لأكثر من ساعتين كل مرة حتى تُجري عملية، ذلك بسبب اكتظاظ المصابين في المستشفى. حسب أمها أجرى لها الأطباء خمس عمليات، وجلها غيارات على الحروق، وترميم للأنف، وفي كل مرة كانت تصرخ لشدة الوجع.
تكمل: "أحيانًا تخرج من العملية تصرخ وتبكي من شدة الوجع رغم البنج الكامل، فيُضطر الأطباء لحقنها بالبنج مرةً أخرى حتى تنام"، مردفةً بالقول: "ذات مرة لم يستجب جسدها للبنج، فحُقنت به ثانية، وبقي الألم قويًا، ولما حقنت ثالثةً تمكنت من النوم".
لم تستطع حنان أن ترى بعينيها لسبعة أيام، حتى جاءها طبيب، ووضع لها في عينيها قطرة، فإذا بها تصرخ: شفتكم، ماما وبابا أنا شايفاكم. "كانت هذه من أكثر اللحظات التي عشتُها فرحًا في حياتي. فتحت عيونها لمدة نصف ساعة كاملة، ووصفت شكل الغرفة، وهذا كان مطمئنًا لنا وكأننا ملكنا الدنيا" تقول الأم.
تستطيع حنان اليوم الرؤية بشكلٍ جزئي، لكنها تتمنى لو أنها تعود فترى بلادها كما كانت عليه، بدون بيوتٍ مدمرة، ولا احتلال. تتمنى أن ترى إخوتها يلعبون باطمئنان، فتشاركهم حلقة اللعب والغناء. في وسط كلام أمها لـ"نوى" استيقظت، وقالت: "خالتو وصلي رسالتي لو سمحتي. نفسي أكمل علاجي برة، وأرجع أمشي بالشارع وأنام على سريري في بيتنا. نفسي تخلص الحرب".
"بدي أصير دكتورة صيدلانية. العلاج اشي مهم كتير في حياة الناس، وأنا لازم أساعدهم".
لكن ماذا عن حلمك يا حنان؟ سألتها "نوى" فردّت وبحزمٍ وانفعال: "بدي أصير دكتورة صيدلانية. العلاج اشي مهم كتير في حياة الناس، وأنا لازم أساعدهم".