غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"هذه خيمة، عيادة نساء وولادة أقيمت في مواصي خانيونس. تخيّلوا المشهد، وكيف يبدو حال الحوامل في مكانٍ لا يحفظ خصوصيتهن؟".
هذا ما كتبه الصحفي أحمد قديح على صفحته في محاولةٍ منه للفت انتباه العالم إلى الحال الذي وصلت إليه نساء غزة، وحال مراكز الرعاية الصحية، ومدى ملاءمتها للنساء النازحات في كل مناطق القطاع.
هذه الخيمة المصنوعة من أقمشة وبها بعض الأعمدة الخشبية لتقف وتشد عودها كما نساء غزة الآن، تحتضن المريضات والحوامل، وهي نعمة في ظل الوضع الراهن، حين استطاع الطبيب سليم بربخ إنشاءها كعيادةٍ ميدانية، بعد تدمير عيادته في المدينة الجنوبية.
إذا كانت هذه الخيمة أصبحَت مركزًا صحيًا، فما الذي يتوفر من أدوية وأجهزة فحص وأدوات تعقيم ونظافة؟ لا سيما ونحن نتحدث عن "مواصي خانيونس".
لمن لا يعرف المنطقة جيدًا، فالمواصي عبارة عن رمال ناعمة جدًا، تجد طريقها إلى عينيك وأنفك بمجرد أن يهب نسيمٌ خفيف يأتيك خفيةً عن طريق البحر. طبيبٌ يستقبلُ مريضاته، والنساء في أشهر الحمل المختلفة، ليتحايل على فقدان كل شيء. تدمير عيادته، والمراكز الصحية، والمستشفيات! "هناك 33 مستشفى دُمّرت في قطاع غزة منذ بدء الحرب، و55 مركزًا للرعاية الصحية خرجت عن الخدمة إما بفعل التدمير الكلي أو الجزئي، أو بفعل محاصرتها واعتقال طواقمها أو إجبارهم على الإخلاء". ماذا تفعل النساء الحوامل والنساء المريضات ومن هن بحاجة لرعاية صحية في الحرب؟ أين يتجهن؟ ومن يخاطبن؟ وحدهن نعم، هنَّ الآن وحدهن، يواجهن مصيرًا مخيفًا وحيدات!
ما الخدمات التي تتوقعون أن تقدمها عيادةٌ في خيمةٍ، إلا من أيادٍ فلسطينية خالصة العطاء والمحبة، وطاقمٌ طبي لم يقف صامتًا أمام هول المذبحة، يحاول أن يصنع من اللا شيء "حياة".
في الخيمة الطبية انتصروا على عجز المنظمات الصحية التي غنّت وطبّلت على مدار سنواتٍ طوال، بقاعدةٍ إنسانيةٍ تقول "إن وصول النساء للخدمات الصحية، أمرٌ واجبٌ ومقدسٌ حتى في الحروب"! انتصروا على الخطاب الدولي العاجز عن تقديم شيءٍ للنساء المطحونات في غزة، هنا، من يقدّم العون طبيبٌ عاهَدَ الله بقسمه أن يخدم مرضاه حتى في أحلك الظروف.
هنالك ما يقارب 60 ألف امرأة حامل يفتقدن لأدنى مقومات الرعاية الصحية، يعشن ظروفًا لا إنسانية في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، يواجهن موتًا بطيئًا هنَّ وأجنّتهن، الخدمات الصحيّة التي بالكاد يحاول الطبيب سالم أن يقدمها هو أقصى ما يمكنه تقديمه. لا عناية طبية متوفرة ولا إمكانية للوصول لمشافي غزة بسبب تقطع الطرق بين محافظات القطاع، وتدمير أغلب المشافي والمراكز الصحية وحتى المشافي والعيادات الخاصة بما تحتويه من أجهزة ومعدات لخدمة النساء الحوامل والعناية بهن. نساء وجدن أنفسهن وحيدات فعدن لطرقٍ بدائيةٍ مُطلقة للعناية بأنفسهن، لكن لا طعام متوازن ولا خضراوات ولا فواكه متوفرة، وإن توفّرت فهي بأثمانٍ باهظةٍ جدًا لا يمكن لنازحة لا تملك شيئًا أن تشتريها لتهتم بصحتها، فكيف إذا تساءلنا عن الفيتامينات، والمقويات؟ هي تُعد ترفًا لا يصلح لنازحةٍ حامل، في حال توفرت أصلًا في مناطق النزوح!
وعن محاولة الحصول على حليب أو لبن أو مشتقاته، فهذه رحلة أشد قسوة، فإن حصلت الحوامل عليه يشربنه بشكلٍ لحظي، ولا يمكن أن يحتفظن به لعدم توفر وسائل التبريد بسبب انقطاع الكهرباء عن قطاع غزة منذ ثمانية أشهر. في غزة، أينما أدرت وجهك النساء أول الضحايا في حربٍ قذرةٍ أكلت الأخضر واليابس (أكثر من 72% من ضحايا حرب الإبادة بغزة، هن من النساء والأطفال).
"هذه الخيمة، تمعّنوها جيدًا، وراجعوا آدميتكم.
استعان الطبيب بيافطاتٍ لـ"يونيسف"! هذا ما توفّر لديه في منطقةٍ تخلو من الحياة، بالإضافة لبعض الأقمشةٍ والدبابيس والبرابيش. صنع الخيمة، وحوّلها لمركز صحّي يستقبل النساء في خصوصيةٍ مفقودة، تمامًا كما العدالة المفقودة لسكان قطاع غزة!"
***
صديقتي الدكتورة الجامعية التي تعيش منذ شهرين في بركس حديدي في إحدى محافظات الجنوب بعد نزوحها عدة مرات من غزة إلى الوسطى، وصولًا إلى رفح التي لم تعد آمنةً بأي حالٍ من الأحوال، لكن لا خيارات للابتعاد والتنقل، فلا مكان تتوفر فيه مقومات الحياة الإنسانية، يمكن أن يدفعها لنزوحٍ جديد. كيف يمكن أن تعود الروح لأحبائنا وسط سلسلة من العذابات؟ نعم، المعذبون في الأرض هم أهل غزة الآن!
الموت يفتح فوهته من كل صوب، وكلُّ نجاةٍ يتبعها موت! النجاة من قصف المنزل، تلحقه رصاصات غادرة من طائرات "كواد كابتر" التي تصر على اقتناص الضحايا دون سبب. طفلٌ أو شاب، هي لا تعدو كونها لعبةً للقتل في أيدي جنود الاحتلال! كذلك النجاه من الخوف والصدمة والدمار الذي يطعن قلوب أهالينا في الخيام، تلحقه أمراضٌ وأوبئةٌ تنتشر ولا تتوقف! وتدور العجلة، من النجاة من المرض إلى نجاةٍ أخرى من التجويع والعطش، إلى نجاةٍ أخرى من الفقد! لكن، الموت في غزة يفتح فمه واسعًا ليبتلع المزيد ممن نحبهم.. المزيد من الأجساد النحيلة المنكوبة. هناك صديقتي النازحة فوجئت بأنها مريضة! إنها كارثةٌ تشبه وجه الموت تمامًا.
أصيبت بسرطان الثدي! كيف يمكن أن تستقبل نازحةٌ منهكةٌ متعبةٌ تعيش منذ 8 أشهر بين الخيام والبيوت المدمرة، وآخرها بركس حديدي يشتعل صيفًا ويلتهب ليأكل من دمها وجسدها وأعصابها الحية؟ وأين السبيل لمركزٍ صحيٍ آمن، وتتوفر فيه الفحوصات والعلاجات المناسبة؟ وأين هي خصوصية النساء المريضات؟
هناك عشرة آلاف مريض/ـة سرطان في غزة، من قبل الحرب، وأغلبهم يعانون بصمت، ويموتون بصمت. أغلبهم لا يجدون مكانًا صحيًا، ولا يتلقّون العلاجات، أو لا يجدونها أساسًا. متابعة مرضى السرطان كانت في مستشفى الصداقة التركي قبيل الحرب، لكنه اليوم خارجٌ عن الخدمة! يقبع هناك تحت نيران المحتلف، وحقده!
أسن تكوني امرأةً جديدة تنضم لقائمة العشرة آلاف، ليس إلا حظًا عاثرًا في وقتٍ يضج بالغبار والقهر والعذاب. أين يمكن أن تجد امرأة في وقت الحرب مكانًا خاصًا لتبثَّ فيه صدمتها بمرضها، وتحاول أن تفصح عما لا يقال؟ في الحرب، كل شيء مهدور، حتى الخصوصية، التي لا تعريف يوازي تعريفها الآن عمليًا في غزة!
تلفُّ النساء شعورهن بالحجاب طوال الوقت في الخيمة، وكثيراتٌ قصصنه لعدم القدرة على العناية به، فلا ماء نظيف للاستحمام، ولا أغراض للعناية الصحية! تلِفَت شعورهن، وأعصابهن. يرتدين الحجاب طوال الليل والنهار خشية القصف المفاجئ، وخشية أن يظهرن من ثقوب الخيمة القماشية، وخشيةً من فكرة أن كل شيءٍ بات مشاعًا مستباحًا!
حتى قدرتنا على البوح بمكنونات وجعنا النسوي بات أمرًا مستحيلًا.. أين السبيل لمركزٍ علاجيٍ صحي، يحفظ خصوصية النساء؟ ما السبيل لمقاومة المرض الخبيث القادم في وقت خبيث، بينما المراكز الصحية والمنظومة الصحية مدمرة بشكل كامل في قطاع غزة، وبينما معبر رفح "قشة الغريق" مغلقٌ منذ بدءْ اجتياح رفح؟! أين المفر من جحيم غزة، وكما قال أحد الأصدقاء الشعراء "قيامة غزة"، نعم نعيش ونهذي في قيامةٍ مصغرة اسمها "غزة"، فهل هناك جنة ستكون لغزة في يومٍ ما؟
***
(10018) شهيدة، نعم، عشرة آلاف وثمانية عشر امرأة قتلن في غزة، فكم أم؟ وكم أخت؟ وكم ابنة؟ كم عمة؟ كم خالة؟ كم حبيبة؟ كم جدة؟ كم بيتًا أصبح يتيم الأم؟ وكم بيتًا أصبح بلا أعمدة؟ وكم بيتًا بات يتيمًا واحتضن أمه بين جدرانه، الاحتضان والعناق الأخير؟
الملفات أمامي الآن، الملف الأول يحمل أسماء شهيدات حرب الإبادة على غزة منذ السابع من أكتوبر. الأسماء أمامي تقفز واحدًا تلو الآخر، فكيف أقرأها؟ وكيف أجرؤ على سؤال نفسي: كيف قُتلن؟ هل دُفنَّ قطعةً واحدةً أو أكثر؟ هل انتشلوهنَّ أم بقين تحت الأنقاض؟ هل لهنّ قبرٌ وشاهد؟ لا أعرف الإجابة، هذا الملف يحمل أسماء من وصلت جثامينهن، أو بقاياها مختلطة بجثامين عائلاتهن، وصلنَ للمشفى فقُيّدت أسماءهن ضمن الشهيدات اللواتي وصلت بقايا أحلامهن المقتولة.. طلَبت إحدى الصديقات ملفات الأسماء للشهيدات والأطفال، فأعطيتُها.. بعد صمتٍ مطبقٍ ساد قلبينا، وعيوننا تتابع الأسماء رويدًا رويدًا، كتبتُ لها بأصابع تحمل الأحرف وترتجف:
"بخنق، بخنق تقرأي الأسماء".
تنّهدتُ، بينما تقف عيني عند الأسماء العشرة الأولى، وتتقافز الوجوه التي لا أعرفها أمامي بسرعةٍ وارتباك، كأنّهنَّ يُردن أن ينهضن من جديد، لكن كبّلتهُنّ أسطر الموت..
كتبتُ لصديقتي بلا أصابع:
كل اسم حياة
كل اسم بيت
كل اسم ضحكة
كل اسم حكاية
كل اسم ابتسامة
غابت
غابت
أعود لأغرق بين أسماء الشهيدات، أتابع نغمة الاسم، وأعمارهن القصيرة تزيد لوعتي. أُعلّقُ في الصفحات الأولى والعيون تتزاحم في مخيلتي: بعضهن دامعات، بعضهن فزعات، بعضهن غلب صراخهن على ملامحهن، لكنه صراخٌ ممزقٌ بلا صوت..
هل هنالك من يستمع لأنين نساء غزة ومعاناتهن في أماكن أصبحت قاحلة بلا مقومات حياة؟ بلا ماء، ولا ملابس، ولا حياة تذكر.
هل هنالك أحد حقًا يدرك ما تعانيه النساء الناجيات الآن؟! ناجيات مع وقف التنفيذ، وقد يصبحن في عداد قوائم الشهيدات بعد يوم أو يومين مادامت الحرب مستعرة؟ هل يشعر أحدٌ فعليًا بالنساء الحوامل ومعاناتهن اللامتناهية؟ هل يشعر أحد فعليًا بالنساء المريضات؟ كبيرات السن؟ ذوات الإعاقة؟ النساء العاديات؟ الفتيات وأحلامهن؟! هل هنالك من يسمع الصوت؟!