غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"واحــد، اثنــان، ثلاثــة، أربعــة، خمســة عشــر يومًــا مــن معانــاة النــزوح. واحــد، اثنــان، ثلاثــة، أربعــة، خمســة آلاف شــهيدٍ حتــى اللحظــة وربمــا أكثـر. واحـد، اثنـان، ثلاثـة، أربعـة، خمسـة آلاف مصـاب يوميـًا. واحـد، اثنــان، ثلاثــة، أربعــة، خمــس زجاجــات ميــاه مالحــة، يجــب أن تكفــي لســقياهم مــدةً لا أحد في هذه البلاد يعلــم أجلهــا. يجــب أن تكفـي لبقائهـم علـى قيـد الحيـاة، فـالناجـي مـن تحـت الـركام لا ينجـو مـن جفـاف حلقـه ثلاثة أيـام".
هذا جزء من قصة قصيرة بعنوان "عطشى"، كتبتها ليان أبو القمصان من قلب المعاناة والنزوح في حربٍ لم ترحم أحدًا وما زالت تشتعل منذ ثمانية أشهر. وهي قصةٌ نشرتها وزارة الثقافة ضمن إصدارها المشترك بعنوان "الكتابة خلف الخطوط".
الإصدار الذي يتحدث عن يوميات الحرب على قطاع غزة، يضم مساهمات لخمسة وعشرين كاتبًا وفنانًا، ويوثق تفاصيل معيشتهم منذ بدء الحرب.
الإصدار الذي يتحدث عن يوميات الحرب على قطاع غزة، يضم مساهمات لخمسة وعشرين كاتبًا وفنانًا، ويوثق حياتهم الشخصية، وتفاصيل معيشتهم منذ بدء الحرب على الشعب الفلسطيني داخل القطاع في السابع من تشرين أول/ أكتوبر الماضي.
وليان طالبةٌ في الثانوية العامة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، تفجَّرَ إبداعُها في الحرب فكتبت الكثير من القصص التي تصف المأساة والحرب أو "المحرقة" كما تسميها، إذ نالت منها كما نالت من كل أهالي غزة.
فقدت ليان بيتها، وتنقلت بين بيوتٍ كثيرة في محاولةٍ للنجاة من الموت، وما زاد الوجع أكثر، تواجد والدتها الكاتبة نجوى غانم، في ألمانيا حينما اشتعلت الحرب، ما دفعها لتحمُّل مسؤولية أخوتها الثلاثة إلى جانب والدها. هذا الضغط والوجع أخرجه القلم على هيئة نصوص إبداعية، حصلت في قلب الحرب على جائزة المركز الأول ضمن جائزة الاتحاد العربي للثقافة.
تقول والدتها لـ"نوى": "أنا من دفعتُ ليان للكتابة، كنت أريد أن أقرأها، و كنت أعيش أيامًا في انتظار نصوصها المتفرقة كي أشعر بما تعانيه، لأنها لم تكن تبوح بأي معاناةٍ لئلا تُقلقني".
وتضيف: "في الحرب كبُرت ليان، وصارت أمًا لأخوتها، وعرفت الغسيل اليدوي وجمع الحطب وإشعال النار وجمع الزجاجات البلاستيكية بعد نفاد الحطب كي تسخّن الماء للاستحمام. لقد تشققت يداها من الأعمال الصعبة، لكنها لم تكن تحكي لي شيئًا من كل هذا"، وهذا ما دفع الأم لدفع ابنتها كي تكتب -بعيدًا عن فكرة التقديم للمسابقات- فقط كانت تذكرها بدورها في توثيق المحرقة.
وتخبرنا ليان: "عندما بدأتُ الكتابة، تأثرتُ بالتغيّرات التي حدثت. انقطاع المياه، والكهرباء، وزحمة الدخول إلى الحمّام مع كثرة عدد النازحين معنا في نفس اليوم، والخوف أصلًا من دخول الحمام، ثم كتبتُ نصًا يحكي عن فتاة استشهدت عندما قصف بيتها وهي تغسل شعرها. كل كلمةٍ كانت انعكاسًا للخوف في داخلي".
كانت ليان تذهب إلى إسطبل بجانب البيت لتخلو بنفسها وتكتب.
وتحدثت ليان عن انعدام أي طقوس للكتابة والخصوصية التي يحتاجها الكاتب، في النزوح، فكانت تذهب إلى اسطبل إلى جانب البيت لتخلو بنفسها وتكتب.
وكأي كاتب غزي استوحت ليان كتاباتها من أحداث الحرب، والنزوح، والدمار، والهدنة، وذهاب الناس للبحر، وانقطاع وعودة البضائع للبيع في الأسواق، والغسيل اليدوي، والحطب الذي جمعته مع إخوتها، واستشهاد صديقتها، وانعدام الغاز والطحين، والخالة التي تسكن في الخيام، واللجوء إلى منزل الجدّة، والهروب في منتصف الليل إلى المدرسة المجاورة لأن البيت مهدد".
وعن النصوص التي كانت أكثر ألمًا ولم تستطع وصفها، تقول: "ليلة الهروب من بيت جدتي إلى المدرسة. تلك الليلة لا أنساها، شعرت أنها أكبر من معنى الكتابة، ولم أستطع الكتابة عنها بالشكل الكافي، لأنها كانت مرعبة. كانت تلك الليلة صعبة لأن أبي لم يكن معنا، وأمي خارج غزة، وكنت أقود جدتي وأخوتي إلى المدرسة بكل الخوف الذي في الدنيا".
وتزيد عن أكثر المشاهد إيلامًا: "يوم أن أحرق الجنود بيتنا. في ذلك اليوم لم أستطع الكتابة، ولا التعبير عن ما يخالجني من مشاعر وألم. كنتُ في حالة إنكارٍ للحقيقة عندما رأيتُ الصور التي أرسلها إلينا أحد الأقارب ممن بقوا في المدينة بعد نزوحنا، فأخذت أردد: هذا ليس بيتي، لا هذا بيتٌ آخر، أين غرفتي الدافئة؟ ومنزلنا الجميل؟ وذكريات الطفولة؟"، مستطردةً في الشرح بقولها: "تخيلوا أنني أنظر الآن الى المرآة وأرى في وجهي تجاعيد لم تكن موجودةً من قبل".
كانت ليان ترسل النصوص لأمها، وتعزف عن نشرها، لأنها لم تكن تريد أن تبدو مثيرةً للشفقة، وهي القوية الصلبة.
كانت ليان ترسل النصوص لأمها، وتعزف عن نشرها، لأنها لم تكن تريد أن تبدو مثيرةً للشفقة، وهي القوية الصلبة. لكن أمها أصرت على مشاركتها، من باب أمانة التوثيق قبل أي شيءٍ آخر. تعقب: "حينما فازت قصّتي شعرتُ بالفرح من قلب القصف الذي كان مرافقًا للحظة وصول الخبر. لأول مرة أشعر أنني لا أريد أن أموت موتًا عابرًا، وأريد أن يتذكرني الناس، لذلك بدأت أنشر بعدها وبغزارة".
تكمل ليان رسالتها في الحرب من خلال نشاطات تقوم بها لإسعاد الأطفال في مخيمات النزوح بدير البلح. تقول والدتها عن ذلك: "كان لا بد من دفع ليان للخروج من مكانها، وتنفيذ نشاطات مع أطفال مخيم النزوح، ففكرة بمبادرة بعد نزوح خالتها وأولادها من رفح إلى دير البلح، حيث كان الوضع النفسي للأطفال صعبًا للغاية، ونفذتها تحت عنوان Little Joy أو (قليل من البهجة)".
تلك المبادرة تضمنت قراء القصص للأطفال، والرسم على وجوههم، وقد ساعدها والدها كثيرًا في توفير المواد اللازمة، فطورت من الأنشطة، وشجعت الأطفال على الرسم، والغناء، والدبكة، وممارسة الرياضة كشد الحبال، وصناعة المراكب الورقية، والفوانيس وغيرها.
ومن خلال مساعدة والدتها في النشر عن المبادرة، تمكنت من الحصول على بعض الدعم من أصدقائها في أوروبا، فاشترت أحذيةً للأطفال، وبعض اللوازم الترفيهية، من بالونات وكرات ملونة، وغير ذلك.
تدر ليان بجد للثانوية العامة، وتتمنى لو تستطيع التقدم لامتحاناتها وتحقيق حلمها في الالتحاق بالجامعة، لكن قبل كل هذا، تتمنى وتدعو الله كثيرًا كي تتوقف هذه الإبادة التي طالت كل زاوية من زوايا قطاع غزة.