ثلاثة منشورات على صفحتي الخاصة على "فيسبوك"، بينها صورة لغرافيتي يُظهر ليلى خالد على جدار الفصل العنصري، تسبّبت بإحجام إدارة DW Akademie عن التعاقد معي بحجة "معاداة الساميّة" و"التحريض على العنف". هذه حيثيات السجال مع إدارة المؤسسة:
على جدار الفصل الذي باشَرت إسرائيل ببنائه في الضفة الغربية وحولَها عام 2002، رَسمُ "غرافيتي" يُظهر ليلى خالد، تميلُ فيه برأسها المُغطَّى بكوفيّةٍ ناحيةَ اليمين، وتُشهر فيه لجهة اليسار بندقيّةً آليّة. تبتسم ليلى في الصورة للعابرين قرب الحائط الذي يَسجُن الضفة وسكانَها، بثقةٍ ساحرة. يبدو الغرافيتي، لشدّة كثافته الرمزية، كما لو كان بطاقةً تعريفيّةً بـ"خاطفة الطائرات" اليساريّة المتمرّدة، تكادُ فيه تنطقُ معلنةً نفسها أمام العالم. يقدّم الرسم رسالة صارخة على الحائط الرمادي البارد، ويَظهرُ كما لو أنّه حصيلة تواطئ بين الراسم والمرسوم، وممهورًا بتوقيعهما معًا. غير أنّ ليلى المرسومة، برغم كلّ شيء، تبقى أقلّ حقيقة من الجدار الخرسانيّ الصلب. لكنّها، في المقابل، بابتسامتها الثابتة، تبدو أكثر ثقةً بالمستقبل من بناةِ الجدار.
* * * *
صورة الغرافيتي هذا، مع منشورَين آخرين مرفوعَين على صفحتي الخاصة على "فيسبوك"، تسبّبت بإحجام إدارة DW Akademie عن التعاقد معي. كُنت، قبل بلوغ لحظة عدم الاتفاق تلك، قد شكّلتُ فريقَ عملٍ لإنتاج محتوى تدريبي حول "الصحافة البيئية" بطلب من الأكاديمية التي تمثّل الذراع التدريبية لقناة Deutsche Welle الرسمية الألمانية. وكان القسم الأكبر من عملي قد أُنجز، فيما توقيع العقد (بمفعول رجعي) كان تحصيل حاصل لا يتجاوز "الرسميّات"، على اعتبار أني عملت بصفة استشارية مع المؤسسة في مشروعَين سابقين، وأن علاقة ثقة متبادَلة جمعتني بالعاملين في إدارتها الوسطى.
ليست غاية هذه المقالة التظلّم، بل نقلُ السجال الذي جرى بيني وبين الإدارة العليا في المؤسسة إلى المجال العام أولًا، وتفكيكُ المنطق الذي قام عليه قرارها ثانيًا، والأهم من هذا وذاك؛ وضع المسألة في سياقها الأوسع، لجهة التذكير بأن أدوات التعبير وضوابطه - خصوصًا لجهة العلاقة الضدّية بإسرائيل، وهو ما يهمنا هنا - ما هي في النهاية إلا انعكاس لثقافة مُهيمنة أو لثقافة مضادّة لها.
في منشوراتي الثلاثة، رأت الإدارة – بدرجات متفاوتة – تعبيرًا عن خطاب كراهية، ومعاداة للساميّة، وتحريضًا على العنف.
أوّل المنشورات فيديو كنتُ قد التقطته عام 2018 لتظاهرةٍ تَجمعُ يهودًا أورثوذكس مناهضين لإسرائيل قرب مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، أثناء إلقاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كلمة أمام الجمعية العامة. فوق الفيديو أضفت اقتباسًا ورد على ألسنة المتظاهرين: "عارٌ عليكم، إسرائيل نازية"، وأبقيته من دون تعليق.
ثاني المنشورات "بوست" نشرته قبل عامين، يصف دولة إسرائيل بـ"المشروع الاستعماري الفاشي". ولتعبير "الفاشيّة"، بحسب الإدارة، خصوصيّة تاريخية. من هنا، فإن "استسهال" وصف إسرائيل بـ"الفاشية" - وفق منطق الإدارة - يعبّر عن استخفاف باستثنائية (exeptionalism) ما عاناه اليهود على يد النازيّة.
أما ثالث المنشورات – وهو الذي دفع الإدارة إلى الحسم في موقفها القاضي بقطع العلاقة التعاقديّة – فـ"صورة غلاف" صفحتي على "فيسبوك". والصورة عبارة عن رسم الغرافيتي الذي يُظهر ليلى خالد، مرفقة بوصف مختصر اخترت إدراجه بجانبها: "فنّ، هويّة، مقاومة، يسار، نسويّة، حريّة". وهي صورة "إشكاليّة"، برأي إدارة DW Akademie، لأنّ ليلى، القياديّة في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، "مصنّفة إرهابيّة في ألمانيا"، ولأنها تحمل في الغرافيتي بندقيّة آليّة، وفي ذلك "تحريض على العنف".
سياسات القوّة هي الفيصل بين "الممنوع" و"المسموح" على مستوى اللغة والتعبير، لكنّ غاية النقاش كانت بالضبط الوصول إلى هذه النتيجة
لم يكُن صعبًا تفنيد النقاط أعلاه. فالفيديو كان نقلًا، مجرّدًا من أي تعليق، لتظاهرة نظّمها يهود أورثوذكس وَقَعت بالفعل. لا يغيّر من الأمر شيئًا تفضيل DW Akademie - المعنيّة بتدريب الإعلاميين على "نقل الوقائع بدقّة" - إشاحة النظر عن واقعة كهذه. وسريعًا بدا النقاش في مدى جواز التبرّم من فيديو يُظهر احتجاجًا سلميًّا نظمه يهود أرثوذكس معادون لإسرائيل أمام مبنى الأمم المتحدة بحجّة "معاداته للساميّة"، ولو من دون تعليق، أقرب إلى السفسطة.
أتجنّب في العادة عقد المقارنة بين إسرائيل والنازيّة، لا لسبب إلا لإدراكي الحساسية التاريخية للمقارنة بالهولوكوست، ولعدم الحاجة إلى المقارنة هذه أصلًا بغرض الذمّ بسياسات إسرائيل. لكنّ "الحساسيّة" المفرطة لـDeutsche Welle حيال فيديو كهذا ليست في واقع الأمر سوى قناعًا يُخفي خلفه تجاوبًا مع ضغوط تتعرّض لها المؤسسة في ألمانيا، كما عاد وأقرّ ممثلا الإدارة في سياق الجدل. والمعلوم أن هذه الضغوط بدأت العام الماضي وأنتجت قبل أشهر قليلة قرارَ صرفِ عددٍ من موظّفي القناة ومدربي الأكاديمية، بسبب منشورات على مواقع التواصل اعتبرتها المؤسسة "معادية للساميّة"، فيما هي في معظمها، في واقع الأمر، معادية لإسرائيل.
أما "استهجان" وصف إسرائيل بـ"الفاشيّة"، فغرابته تتمثل في أن الوصف يردُ في كُتب ومقالات ومنشورات، وأنه جزء من النقاش الأكاديمي في الغرب حتّى. وقد أحببتُ هنا، في سياق النقاش السجالي، أن أشدّد على أنّي أدرك أنّي أُقيّد نفسي بمفاهيمَ وضوابطَ في السياسة والأكاديميا الأوروبيّة (مثل تفهّم حساسية الهولوكوست، وعقدة الذنب الألمانيّة، إلخ.)، لأن الغاية كانت تفنيدَ عدم اتساق المنطق المقابل، عبر استخدام أدوات المنطق نفسه.
كما أنّ التقيّد بالضوابط هذه يعني أن أي حديث عن "خصوصية" أوروبيّة في فهم الأمور، وعدم تفهّمنا – كعرب – لهذه الخصوصيّة، مردود عليه. والشواهد على ذلك وافرة من أوروبا نفسها. فقبل أقل من ثلاثة أعوام، وقّع مئة وسبعة وعشرون أكاديميًا يهوديًا عريضة تدين تصويت البرلمان الفرنسي على قرار غير ملزم يساوي معاداة السامية بمعاداة الصهيونية. يدرك هؤلاء اليهود الذين يدرّسون في جامعات غربية "الخصوصيّة" الأوروبيّة أو الألمانيّة بالتأكيد، بل إنّ ثقافتهم مشبّعة بها، أليس كذلك؟ ثمّ من قال إن وصف "الفاشيّة" بدأ في ألمانيا وانتهى هناك مع الإجهاز على النازيين فيها، حتى يُحتكر الوصف ويُختزل في نطاق تاريخي محدّد؟ ألم يكن حكم فرانكو الذي استمرّ حتى منتصف السبعينيات في إسبانيا فاشيًا بحسب الأدبيّات السياسية والأكاديميّة في الغرب وخارج الغرب؟ ومن قال إنّ الفاشيّة وصف إطلاقي لا يحتمل التفكيك وإعادة التخصيص أصلًا؟
عجيبٌ أن تلحظ مؤسّسة إعلامية ضخمة رسمَ الغرافيتي ورمزيّته، ولا تلحظ وجود الجدار
في ما يخصّ الغرافيتي، يفيد القول، بداية، إن ليلى خالد ألقت عام 2016 كلمة في نشاط أقيم في ألمانيا نفسها في الذكرى الأربعين لـ"يوم الأرض"، ما يعني أن الزعم أنها "تُعتبر إرهابيّة في ألمانيا" أشبه بـ"الأخبار الزائفة" التي يُفترض أن الأكاديمية تدرّب الصحافيين على كيفية كشفها ودحضها. كما أن ليلى، التي استُضيفت في جلسة للبرلمان الأوروبي عام 2017 أيضًا، هي ببساطة أيقونة فلسطينيّة يُفترض أن تدرك أيّ جهة تتعامل مع العالم العربي رمزيّتها، لا السياسية والنضاليّة فحسب، بل على مستوى تعبيرات الثقافة الشعبية أيضًا (والغرافيتي أحد هذه التعبيرات، حتى لو كان صاحب الرسم أجنبي).
طبعًا، ينمّ النقاش هذا عن ترف نخبوي، إذ إنّ سياسات القوّة هي الفيصل بين "الممنوع" و"المسموح" على مستوى اللغة والتعبير في نهاية المطاف. لكنّ غاية النقاش كانت بالضبط الوصول إلى هذه النتيجة. لم يمرّ زمن طويل على الحملة ضد "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" بسبب تقريرهما الذي وصفا فيه إسرائيل بـ"دولة فصل عنصري". وقبل أسابيع فقط أطلق فيليكس كلاين، مفوّض الحكومة الألمانيّة لمكافحة معاداة السامية، تصريحًا يشير فيه بشكل خاص إلى "نمو كراهية إسرائيل بوصفها معاداة للسامية في الأوساط الأكاديمية"، مع ما يعكسه ذلك من رغبة في فرض هذه "التوأمة المفاهيميّة" بين معاداة الصهيونيّة ومعاداة الساميّة.
لكنّ الطامة الكبرى أن تكون مؤسسة معنيّة ببناء القدرات ونقل المعارف "ملكيّة أكثر من الملك". إذ حتى القضاء الألمانيّ اعتبر، قبل شهرين تقريبًا، أن فصل Deutsche Welle الصحافية فرح مرقة منها بحجة نشر تغريدات "معادية للساميّة"، إنما هو قرار غير قانوني.
* * * *
في الأصل، عجيبٌ أن تلحظ مؤسّسة إعلامية ضخمة رسمَ الغرافيتي ورمزيّته، ولا تلحظ وجود الجدار، أي الحقيقة الموضوعيّة الصلبة الوحيدة في المشهد المذكور.
في الغرافيتي "موضع الجدل"، تكاد ليلى خالد تنطق. تبدو، بابتسامتها الثابتة، كمن يُمرّر رسالة صاخبة للمتلقّين. تذكّرهم بالأدوات المتاحة لإعادة تشكيل الكثير من علاقات الهيمنة، وتقديم بدائل أكثر توازنًا وعدلًا من تلك الموجودة في الواقع.
يذكّرنا الغرافيتي، وليلى في قلبه، بصعوبة تصوّر عالم يدوم فيه كيان عنصريّ مهيمن إلى أجل غير محدّد، خصوصًا في ظلّ استحالة ابتلاعه كامل محيطه الجغرافي والديمغرافيّ. أدوات الترميز الأخرى على جدار الفصل تقول الأمرَ نفسه أيضًا: صعبٌ تصوّرُ دَوَامَ الرقابة على وصف الكيان بالـ"فاشيّ"، أو التأشير إلى مكامن الفاشيّة فيه. وصعبٌ الاستمرار بتطويع المصطلحات وإعادة تعريفها للتعمية على سياسيات هذا الكيان وممارساته، على حساب تسمية الأمور بمسمياتها.
ربما سيتغيّر هذا حين يأتي يوم لا تعود فيه عقدة الذنب حيال محرقة مهولة وقعت قبل سبعين عامًا، هي المعيار الأوحد للحكم على الأمور، ولا يعود دافعو ثمنها، الآن، وهنا، هم سكّان الأرض الأصليون.