شبكة نوى، فلسطينيات: نقلًا عن صحيفة الأيام -بديعة زيدان:
"كتابية القصيدة"، من مميزات تجربة الشاعر اللبناني شربل داغر، فقد تحدث عنها مراراً في الندوة التي احتضنها بيت الثقافة والفنون في العاصمة الأردنية عمّان، وقدمه فيها الشاعر الأردني محمد العامري.
وقال داغر: انطلقت في تجربتي، ومنذ بداياتي، لتقديم صوتٍ أو نهجٍ كتابيّ في القصيدة، والقطع بشكل ما أو بنسبة كبيرة مع الشفوية وتجلياتها في القصيدة، فأحياناً هناك ابتداءات فيها شيء من التوجه، وبجمل بسيطة واضحة مقصودة، ولكن قد تجدون أحياناً فيما أكتب ما بين لفظ وآخر، أما ما بين المسند والمسند إليه، أن ثمة أفخاخاً أو اقتراحاتٍ أو حتى ألعاباً عدّة ممكنة بفعل القراءة، وهي قد تستفز المتلقي، وقد لا تستفزه فيمرّ عليها عابراً.. أهوى ذلك في كتابة قصيدتي.
وأضاف: هذا لا يلغي أن القصيدة، خاصة عندما تكون على شيء من الطول، أن تعتمد بالضرورة على وقفات وانتقالات كي يتمكن القارئ مثل السامع أن يتابعها.. لديّ قصائد طويلة جداً كقصيدة "الشارع" على سبيل المثال، تزيد على خمسين وستين صفحة، وهي حول شارع طفولتي في بيروت، وفي هذه القصيدة يوجد ما يمكن أن أسميه بالناظم البنائي، وهذا الناظم البنائي أساسه سرديّ بل سيريّ، وهو ما يخوّل القارئ الانتقال من مقطع إلى آخر كما في رواية من فصل إلى آخر.
وشدد داغر: قوة القصيدة بالنثر، كما أرى، هي في هذه القدرة التي لها على استقبال أساليب وأنظمة وطرق بناء متعددة لا تجيزها وليست ممكنة في الشعر الفراهيدي، أستاذ العربية الأول في ظنّي، وهو القائل بأن الشعراء هم أمراء الكلام.
وفرّق داغر ما بين الشعر المطبوع وما بين الملقى، بالقول: حين نكتب الشعر عادة في المطبوع، نستطيع أن نتوقف، ونعود وإلى الوراء ونتقدم، بعكس الصوت، ففي الإلقاء تفوتك أشياء ربما.. حضرتم مثلي أمسيات شعرية لشعراء عموديين، أحياناً بعض الحضور من الشعراء يشاركون الشاعر كتابة البيت وهو يلقيه، وهم لا يعرفونه، بمعنى يتوقعون حدوثه المحسوب مثل الحجر في العمارة، ليس فقط على مستوى الإيقاع بل على مستوى البناء العروضي والنحوي أيضاً، وبناء العلاقات بين الألفاظ.. المتنبي كان الأستاذ المعلم في هذا الميدان.
البدايات المسرحية وأثرها
وكشف داغر: ما لا تعرفونه ربما عني، وأنا المسؤول عن ذلك، ما قبل المراهقة بقليل وفي سنوات المراهقة كانت مسرحية، حيث كتبت نصين مسرحيين، ومثلت فيهما، ولا أملك أي نسخة عن أي منهما على الإطلاق، حتى أذكر بعض فكرة أحدهما، والثاني لا أذكر عنه أي شيء.. في المرحلة الثانوية كانت ثمة مسابقة أدبية، تقدمت بنص مسرحي ثالث، وفاز بالجائزة الأولى، ولا أملك أي أثر له.
وأضاف في هذا الجانب: أحياناً وأنا أقرأ القصيدة أعيد اكتشافها، وكأنها لشاعر غيري، بحيث انتبهت في واحدة من القصائد التي قرأتها في الأمسية، أن ثمة انتقالات في الجملة الواحدة، وهو ما لا يستسيغه الشعر عادة، مع أن الشعر يمكنه أن يقفز من قاع النهر إلى لحية ملاك، فيما يُعرف بقفزات الخيال، لكن في بناء الجملة وسلامتها أو تواصلها مع القارئ فإن هذه الانتقالات مربكة، وهي انتقالات داخلية أساسها الصوت، كما لو أن هنا خشبة، والقصيدة تتخفى فوق هذه الخشبة.
وتابع: الظريف في الموضوع أنني في العام 2005، كتبت نصاً بعنوان "جثّة شهيّة"، وهذا النص لا أجد له شبهاً في الشعر العربي الحديث، وهذا ليس من باب المباهاة بتاتاً، بل من باب وصف القصيدة، مع أن البعض قد لا يسمّيها قصيدة، ففيها عدّة مسرحية، حيث ثمة ما يشبه التابوت فوق خشبة. وإكسسوارات المسرح لا تغيب، بل هناك أيضاً شاشة إلكترونية، ومتحدثون يروون النص، وفي كلامهم وحواراتهم، يحلق النص أحياناً مثل غيمة متنقلاً ما بين الشعر الصافي، إن جاز القول، إلى ما يشبه الحوار المسرحي.
"الترانزيت" والفلسطيني
كتبتُ عدّة نصوص وفق هذا المنحى، بل بلغ بي الأمر في كتاب شعري بعنوان "الترانزيت" بأن كله اتجه في هذا المنحى، ففي هذا النص الشعري الطويل كلهم متكلمون فيما عدا واحد هو الفلسطيني.
ولفت الشاعر اللبناني إلى أن هذا النص (الترانزيت) يزيد على المئتي صفحة، وتقوم فكرته على مجموعة من المسافرين تتعطل حركة المطار حيث هم، فيمضون الوقت في الحوار واللعب وغير ذلك، وفي نهاية النص (الكتاب) نداء بأن "اخرجوا".. كلهم يخرجون باستثناء واحد يخبرهم بأنه يفضل البقاء في عتمة النص.. "الكتاب كله يبدو واقعاً كلحظة شعرية تولدت من خيال شاعر، لكن عند قراءته سنجد أنه يحوي ما يشبه البناء الروائي، حيث ثمة متكلم يتابع حكايته في مدى النص.
وأضاف داغر: ثمة مسرحيون بينهم نبيل القسم، وهو لبناني الأصل، وكان علماً كبيراً في فرنسا قبل رحيله، راقت له هذه النصوص، وكان يستخدمها في التدريب المسرحي في كندا، ولكنه أشار بأنه لا يمكن تقديمها في المسرح.. لكن حالياً أخبرني أحد المخرجين التونسيين برغبته في مسرحة شيء من هذه النصوص الكثيرة، فرحبت بالفكرة، وأخبرته بأن "جرّب ونقرر ما إذا كانت تصلح للمسرحة".
القصيدة في النثر
وفيما يتعلق بـ"التجنيس"، عبّر داغر عن موقفه الخاص بالقول: أميّز ما بين الشعر وما بين الأنواع الأدبية الأخرى، وأميّر ما بين القصيدة في النثر وغيرها من أنواع الشعر والأدب، بمعنى كيفية تحديد تكوينها وطبيعتها البنائية وكيف أنظر إليها، وهذا ليس من باب رفع القصيدة في النثر، وإذا ما تلاحظون فإنني أسميها "القصيدة في النثر" لدقة الترجمة عن الفرنسية، ولأمر آخر وجدته عند بودلير في أول مسعى كتابي لتسمية هذا النوع "القصيدة / في النثر"، وكأنه كان يريد إظهار أن هذا من الشعر، وهذه قصيدة، وليست بناء نثرياً صرفاً.
وأضاف: لو عدنا إلى التجارب الأولى والتأسيسية للقصيدة في النثر، وخاصة عند بودلير، سنجد أنه أدخل إليها، على الأقل، نوعين: الأول هو السرد، وهو أمر يختفي بقوة عند رامبو بعده، والثاني هو الحوار، فهناك نصوص له تقوم على بنية الحوار، وأنا في عدد من مجموعاتي الشعرية أعتمد هذا النوع.. لا أقول ذلك من باب الأمانة للأصل، فلست متمسكاً كثيراً في الأصول الشعرية، فموقفي أن هذه القصيدة هي من الشعر وغيره، وهذا موقف قديم بنيته منذ زمن، بمعنى أن طبيعة هذا النص مبنيّة على احتمالات تركيب جديدة، ويستطيع استيعاب أنوع شعرية وأجناس أدبية وأساليب كتابية متأتية من مساحات أخرى، وهذا ما أنتقده اليوم، ومنذ سنوات، في عدد كبير من الشعر العربي في النثر، إذ أنه بات أشبه بالشعر العروضي، له منوال، ويتكرر بتلقائية تكاد تكون آلية.. فيما يتعلق بالقصيدة في النثر ومنذ مجموعتي الأولى "فتات البياض"، وفي صفحتها الأخيرة أتكلم عن الكتابة المتعددة، والخروج بالنص من أسلوبية القصيدة في النثر.
وشدد داغر: أنا من جيل كان له الحظ بأن يسبقه جيل مؤسس لهذه القصيدة، كأنسي الحاج والماغوط وجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ وغيرهم.. صحيح أن هذا المقترح السابق هو زاد لنا من جهة يمكن البناء عليه، لكن كان علينا مهمة التغيير، وهذا كان التحدي بالنسبة لي، وإن كنتُ وفقت في ذلك فهو متروك لغيري.
قصيدة التفعيلة
ووصف داغر قصيدة التفعيلة بأنها "مظلومة في العالم العربي"، وأن "من ظلمها هم شعراؤها في المقام الأول".. وقال: حين اشتغلت على أطروحتي الأولى حول الشعر الحديث، ركزت على ثلاث مجلات "الآداب" و"شعر" و"مواقف"، وتوصلت حين تناولت المستوى الإيقاعي العروضي فيما سُمّي بقصيدة التفعيلة وجدتُ أن بحور الشعر تحولت مما يزيد على الأربعة عشر إلى ثلاثة أوزان أو أربعة على الأكثر، وأن التنويعات العروضية ضعيفة في هذا النوع من القصائد، وهو منشور في كتابي "الشعرية العربية الحديثة".
وأشار داغر إلى أن "السيّاب في (أنشودة المطر)، والتي يقول فيها في أكثر من مكان (مطر مطر مطر)، وهذه لا تركيب إيقاعياً لها، وهي أقل من تفعيلة، وهو هنا لعب بصرياً على محاكاة تساقط المطر نصيّاً، وكان امراً عظيماً وقتها، حيث نشرها في العام 1958 بمجلة "الآداب"، فالتنويعات في قصيدة التفعيلة محدودة جداً، حتى أن بحوراً لا وجود لها في هذا النوع من القصائد اليوم على الإطلاق.
الرواية والشعر
وشدد داغر على أن "الشعر يحتمل التنويع والتعدد، وهكذا أريده وأكتبه، أما الأنواع الأخرى فأنا أكثر تشدداً مما هي عليه اليوم، بمعنى أن ثمة تجارب كتابية تحمل تسميات جديدة كالقصة القصيرة جداً، التي فيها شيء من القصة وفيها ما هو أكثر من الشعر، فتظهر هجينة".
وأضاف: الرواية، وبسبب تقليديتها، ولكونها الأكثر رواجاً، تقوم لعبتها على الدهشة والقوة، تبدو بمثابة أوركسترا تحتاج إلى مهارات ومايسترو يتميز بحسن الإدارة، بينما الشعر هو المنشد.. أنا مع إلغاء الحدود في "القصيدة في النثر"، بينما أتشدد أكثر في الأنواع الأخرى، إن جاز القول.
وأكد داغر في مجال آخر، أنه ليس من مسؤولية الأديب العربي "النهوض بهذه الأمة التي ليست أمة في حالها الراهنة، لا بل تحول أكثر من بلد عربي لجهة حروب داخلية ما، عدا أن عدداً من القوى الإقليمية غير العربية هي التي تمسك بأدوات كثيرة تتعلق باللعبة السياسية والعسكرية والاستراتيجية في المنطقة.. صحيح أن الأديب يتفاعل مع القضايا المحيطة به، ولكن بطريقة تبتعد عن التحريض، كي لا يقع النص الإبداعي في فخ الخطاب السياسي".
بناء ثقافي وأنسي الحاج
وفي رد على سؤال حول ما إذا كان داغر في شبابه سبعينيات القرن الماضي، وحين بدأ النشر، كان اطلع على تجربة فؤاد رفقة في الترجمة لشعراء من أمثال هايدغرر وهولدرن وهيرمن، وخاصة ترجمته لـ"مراثي دوينو" للشاعر ريلكه على نحو خاص، وغيرها، باعتبار أن ثمة توازياً على نحو ما بين ما كتبه داغر وما ترجمه رفقة، أجاب: سأكشف هنا عن جوانب من بناء ثقافتي، لكن كل هذه الأسماء التي تم الحديث عنها من ترجمات ما كنت أعرفها.. قبل انتقالي إلى باريس العام 1976، كانت ثقافتي محدودة للغاية، حتى أنسي الحاج ما كنتُ قد قرأته، وهناك واقعة حدثت قبل أشهر في القاهرة خلال ندوة تكريمية لي، حيث سألني أحدهم عن أنسي، واكتفى البعض باجتزاء الكلام لينشر بأنني لا أحب أنسي الحاج، وهذه ليست الحقيقة، فالواقع أنني، وكما قلت في القاهرة، أنني كنت أعرفه ولم أقرأه، ولم أكن وقتها متأكداً من نفسي بأنني سأكون شاعراً، بل إن مجموعتي الشعرية الأولى أهديتها إلى نفسي، بالقول "إلى شربل لئلا يصير شاعراً"، فلم يكن الأمر محسوماً بالنسبة لي.
وأضاف: حين كنت في الجامعة ببيروت، صدر "ماذا فعلت بالوردة" "وبشعرها الطويل حتى الينابيع" لأنسي الحاج، اشتريت هاتين المجموعتين وما أحببتهما، ففيهما غنائية عالية، وأنا لا أحب الغنائيات.. بعد سنوات، وخلا إقامتي في باريس قرأت لأنسي وأعجبت بالعديد مما كتب، ومع ذلك أنا لست منتجاً دون سقاية، بمعنى أنني لست شاعراً "بعلياً"، فلا أحد ابن نفسه.. عدتُ أتعلم الأبجدية من جديد في باريس، بل إنني ولدتُ ثانية في باريس.. بيروت كانت تعيش مع بداية السبعينيات كثيراً من الغنائية واستسهال التغيير، ولكن كانت ثمة خفة شديدة لدى الكثيرين.
أقرب إلى الشعر
وختم شربل ما إذا كان الأقرب له الشاعر، أم الروائي، أم الناقد، أم غيره، بالإجابة: قبل سنوات كان يربكني هذا السؤال، خاصة لم يكن لديّ مخططات لكتابة رواية، فإذ بها روايات، بل حققت روايات من أوائل الروايات العربية، فالأمور تغيرت بالنسبة لي، حتى إنني أصدرت ثلاثة كتب عن تاريخ بلدتي في أكثر من جانب.. لا أملك جواباً حاسماً في ذلك، وأعتقد أن للصحافة التي أحبها دوراً كبيراً هنا، والتي بدأت العمل فيها مصادفة مع بدايات جريدة "السفير"، وكنت كتبت قبلها مقالات في مجلة "الحرية"، مع عدد من كتاب الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كـ ليانة بدر، وياسر عبد ربه، وغيرهما، واستلمت وقتها القسم الثقافي في الجريدة، وبعد استقالتي تسلمه سعد الله ونوس، متحدثاً عن دور المصري إبراهيم عامر، والفلسطيني بلال الحسن البارز في هذا المجال، و"لولا الصحافة لما تورطت بالكثير من الانشغالات، لكون الصحافة مولّدة للفضول.. أعتقد أن هذا التعدد له علاقة بتكويني، فلا أطيق الملل ولا يعنيني الضجر، ولكن الصحافة غذت هذه النزعات لي، ويبقى الأهم بالنسبة لي اللغة، لكني أجدني أقرب إلى الشعر".
وكان داغر قدّم قصيدتين في الأمسية، أولهما قصيدة "أيها الصوت دعني أكن" وأهداها إلى روح الشاعر الأردني أمجد ناصر، والثانية قصيدة "أينعت أزهارنا على القحط".