غزة:
"عروس .. عروس عصفورك الطيار ما عاد يهرب المحبس بإيدو صار"، على وقع لحن هذه الكلمات زُفت مروة لعريسها إبراهيم الذي اختارها شريكة لدربه، لكن هذا العصفور لم يعد موجود ليحتضنها بين جناحيه، لأنه رحل إلى السماء بعد أن سرقه الاحتلال الإسرائيلي منها ليتركها وحيدة تكابد لوعة الفقد.
لقب أرملة بدل عروس
حكاية حب قصيرة عاشها العروسان لم تزد عن شهرين، كان آخر موقف جمعهما لحظة خروج إبراهيم الضابوس (25) عاماً من منزله في مخيم جباليا شمال قطاع غزة يوم 12 نوفمبر، ملوحاً بيده لزوجته في إشارة عفوية للوداع، تركته يذهب وظلّت متوجسة بخوفها عليه، فسماء غزة حينها كانت ملبدة بطائرات الاحتلال الإسرائيلي التي تقصف في كل حدب وصوب.
شغلت العروس نفسها مع والدته في إعداد وجبة الغداء التي طلبها وهي "محشي الباذنجان" الذي يحبه، مرت الساعات ثقيلة جداً وهي تنتظر عودته ليجتمعا معاً على المائدة، فجأة رن هاتفها النقال، خطفته بسرعة لتجيب في ارتباك، فإذ بالمتصل يخبرها بصوت خافت أن زوجها أصيب نتيجة صاروخ أطلقته عليه طائرات الاحتلال الاسرائيلي بينما كان جالساً مع أصدقائه في أرض زراعية في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة.
دقائق حتى بلغهم خبر استشهاد إبراهيم، دارت الأرض بها، فكيف تصدّق أن إبراهيم تركها هكذا وغادر للأبد، دون أن يحققا أي من أحلامهم التي تواعدا بها سويًا
ومن وسط دموعها التي لم تتوقف قالت :"يوم زفافنا، كان طاير من الفرحة"، وتكمل بينما تضغط على عينيها بقوة بأنه لم يكن زوجًا تقليديًا، فهو زوج ورفيق وصديق، بل وأب حنون لها.
وتعلّق: “شهران كانوا أجمل أيام حياتي، لم أتوقع مطلقًا أنه سيبتعد عني، مازال هناك أمنيات تنتظرنا لتحقيقها"، وتسند رأسها إلى الجدار وهي تبكي وتعاتب عريسها الذي سرقه الاحتلال منها :" إرجع لنحقق أحلامنا، ونجيب طفل نسميه عبد العزيز مثل ما كنت تتمنى، وتسمع منه كلمة بابا، وتمسك يده أول ما يبدأ يمشي، وتعلّمه ويكبر قدامنا"، لكن لم يجب صوتها الناحب سوى الصدى.
ما زالت مروة تدرس الثانوية العامة، ورغم زواجها المبكّر، لكن حلمت كباقي الفتيات بإتمام تعليمها وبناء بيت تهنأ فيه برفقة زوجها وأبنائها، لكن الاحتلال الإسرائيلي قتل ما تمنّت، وحملت لقب أرملة بدلًا من عروس.
في غزة المعلقة بين الحياة والموت يحلم الشباب بتكوين أسرة بسيطة واختيار زوجة مناسبة، فيفنون عمرهم في العمل لجمع المال الكافي لتلبية تجهيزات الزفاف مع عروسته، فيأتي الاحتلال الاسرائيلي بلحظة ليبيد سعادتهم وأمانيهم.
وكانت حكومة الاحتلال الإسرائيلي شنّت عدواناً بالطائرات الحربية على قطاع غزة -الواقع جنوب فلسطين المحتلة- بين 12 حتى 14 نوفمبر، راح ضحيته 35 مدنيًا فلسطينيًا بينهم ثلاث نساء و 6 أطفال، استهدفت خلاله البيوت والمنشآت المدنية، بينما أصيب أكثر من مائة في منطقة جغرافية لا تتجاوز 360 كيلو مترًا تعاني الحصار الإسرائيلي منذ 13 عامًا وتكابد مستشفياتها أزمة نقص الأدوية والمستهلكات الطبية وضعف الخدمات الصحية نتيجة لذلك.
ادفنوني معه
في أحد زوايا منزلها تحت ظل حائط تلتصق عليه صورة عريسها الشهيد عبد الله البلبيسي اختارت ليزا البلبيسي (18 عامًا ) الجلوس، تكوّرت على نفسها وهي تبكي بعيون ذابلة هرمت قبل أوانها، تقلّب في هاتفها المحمول على صور فوتغرافية تجمعها بحبيبها يوم زفافهم، تستذكر الأوقات الجميلة معه، ورسائله الصوتية المحمّلة بالشوق لها، وحواراتهما وضحكهما، تفاصيل أضحت ماضٍ ستظل عالقة في ذاكرتها.
"ادفنوني معو شو بدي بالحياة بدونه"، بهذه العبارات العفوية التي خرجت من قلب مغترس فيه وجع الفقد، ألقت ليزا نظرات وداعها الأخيرة على زوجها الذي قتله الاحتلال الاسرائيلي بصاروخ وجهه صوبه مباشرة، فتركها تعيش الحداد ليس فقط عليه، بل أيضاً على بدلة فرحه المعلّقة في دولابها، فستانيها زاهية الألوان، عطورها، مساحيق تجميلها، وأثاث منزلها الذي أصبح بارد دون عريسها.
بصعوبة تخرج كلماتها مرتجفة من بين شفتيها المرتجفتين وهي تقول :"كنت أحلم في اليوم اللي يجمعني مع عبدالله تحت سقف بيتنا، قضينا فترة خطوبة لمدة سنة جهزنا كل شيء بالمنزل مع بعض، حضرنا كل متطلبات يوم الفرح مع بعض، كان هو أكبر فرحة في حياتي"، صمتت برهة مجهشة بالبكاء، ثم استأنفت: “كان عبد الله يحدثني دائماً أنه نفسه بطفلة يسميها إيمان، كان يقول البنات ودودات وحنونات".
الحاضر بالنسبة لها متوشحاً بالسواد في وقت كانت من المفترض أن تقضيه كشهر عسل، تنتقل في منزلها كفراشة تستقبل التبريكات من ضيوفها فلم يمض على زواجها من عبد الله سوى شهر ونصف، لكنها بدل ذلك تمد يدها لمصافحة المعزّيات اللواتي يحثوها على التماس الصبر.
وتابعت :"وعدته أن أحضر له هدية أخر الشهر وبالفعل وفيت، هذا سيفرحه في قبره وهي طفلتنا إيمان التي ستحمل اسمه".
اللقاء الأخير
الحكايا لم تنتهِ بعد، رغم اختلاف الظروف لكن يبقى الألم واحد، الفتيات يدفعن ثمن ألم الفقد قاسياً، فمريم عبد العال ابن الـ16 ربيعاً لم يمر على خطبتها لعريسها الشهيد أحمد عبد العال لها سوى أقل من شهر، فسرعان ما تبدلت أصوات الزغاريد في منزلهما إلى صراخ بعد فقد أحمد وأشقاؤه ابراهيم واسماعيل، فاستشهد ثلاثتهم أثناء تواجدهما للعمل في منجرة والدهم في منطقة الشعف شرق مدينة غزة، والتي طالها القصف هي الأخرى.
لم تستطع مريم الحديث، فدموعها كانت تسبقها في كل مرة تحاول شرح معاناتها بعد أن فقدت عريسها فاكتف بقولها:" قبل وفاته بليلة كنا سهرانين، لم أتوقع أنه اللقاء الأخير، لا قيمة للحياة دونه، خططنا كثيراً لمراسم الزفاف، شكل منزلنا وألوانه، ما حدث لأحمد جريمة ذهب لعمله للحصول على مصدر رزق يؤمن تكاليف زفافنا".
وكان من المفترض أن يتزوج كل من مريم وعبدالله بداية إبريل في العام القادم حيث يصادف عيد ميلادهما في الشهر ذاته.
الشهيد إبراهيم الضابوس
العروس مروة الضابوس
الشهيد عبد الله البلبيسي
العروس ليزا الشوربجي
الشهيد أحمد عبد العال