شبكة نوى، فلسطينيات: لعبت الديغولية دورا محوريا في ترسيخ الخصوصية الفرنسية لتفادي المد الأنغلوــ سكسوني، ثقافيا وعسكريا، إذ رفض الجنرال شارل ديغول الانضواء تحت لواء الحلف الأطلسي، وبذل جهودا جبارة، من أجل الدفع بفرنسا بعيدا عن الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة، والحفاظ على القرار الفرنسي المستقل.
في مطلع ستينيات القرن الماضي، كان التأزم بين الكتلتين الشرقية والغربية قد بلغ ذروته حول برلين، وكان ديغول رأس الحربة، في المساعي الحميمة للتقارب بين فرنسا وألمانيا الغربية، محور باريس - بون، وكان تصور ديغول انه من خلال تكتيل الفاعليات السياسية لدول أوروبا الصغيرة، وزيادة استقلالها عن «الناتو» وعن النفوذ الأنغلو ـ سكسوني، وإنشاء قوة نووية رادعة خاصة بها، واتخاذ محور بون ـ باريس على انه القوة المحركة لها، وبناء أوروبا الموحدة وقاطرتها فرنسا، يمكن الدفع بأوروبا بعيدا عن التوجهات والخيارات الأميركية، وتأكيد الزعامة الفرنسية لأوروبا.
منحت الديغولية كفلسفة حرية، وكخيار ثقافي وسياسي، يؤمن بحق الشعوب بتحقيق مصيرها الفرصة، لبلد المليون شهيد – الجزائر - أن تختار مصيرها، وكان موقف الجنرال شارل ديغول بإنهاء الحرب الجزائرية 1962، حاسما.
وجاء الاحتفال بالسياسة الديغولية في الستينيات في العالم العربي، ليس فقط، لأن الديغولية أصبحت تعني التناقض مع التوسع الكولونيالي الاستعماري، وإنما أيضا لعدالة الموقف الفرنسي في الصراع العربي - الإسرائيلي، ولأن باريس، كانت تحاول البحث عن دور فرنسي وأوروبي فعال، إلى جوار واشنطن وليس خلفها.
آخر الديغوليين كان الرئيس الراحل جاك شيراك - وافته المنية قبل أيام - وهو يعتبر احد أبناء المدرسة الديغولية، بما كان يمثله هذا الرجل الذي تربى في ظل الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو، خليفة شارل ديغول.
انتخب جاك شيراك لمنصب رئاسة الجمهورية الفرنسية سنة 1995 خلفا للرئيس فرنسوا ميتران وانتهت فترة توليه لهذا المنصب في 2007. وظل جاك شيراك الذي طبع المشهد السياسي الفرنسي على مدى 40 سنة يوازن بين الشارع الشعبي والقصر الفخم - الإليزيه -.
وبين ديغول الزعيم التاريخي لفرنسا، وجاك شيراك الديغولي، بقيت فرنسا مفتتنة بزعامة أوروبا المستقلة عن النفوذ الأميركي. وشكلت الحرب الباردة سدا منيعا أمام الطموح الفرنسي من حيث سلمت هذه الحرب مفاتيح الأمن الأوروبي للولايات المتحدة، غير أن تطورات ما بعد الحرب الباردة والتداعيات السياسية لسقوط جدار برلين، لم تكن سهلة على الفرنسيين، ومن بينها انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك الكتلة الاشتراكية وتفجر الحرب في البلقان.
كانت حرب الخليج الأولى، هي إحدى المعالم المبكرة لتحولات ما بعد الحرب الباردة، وكانت هذه الحرب امتحانا صعبا على باريس.
فقبل هذه الحرب، كانت فرنسا بوابة الغرب إلى العراق، وكان ينظر إلى التعاون الفرنسي العراقي، الأمني والاقتصادي الواسع، باعتباره تعاوناً بين العراق والمعسكر الغربي، وقد قاد هذا التعاون الوزير جاك شيراك مع صدام حسين.
ولم تكن تداعيات حرب الخليج خبرا سارا للفرنسيين، الذين ما لبثوا أن شعروا بفداحة الكارثة، حيث انهارت مصالحهم دون مقابل مواز.
وعلى طول فترة عمله عمدة لباريس، ثم رئيسا للوزراء، ثم رئيسا للجمهورية الفرنسية، كانت تزين مكتب جاك شيراك، صورة مؤطرة ببرواز نحاسي، للجنرال ديغول، بالزي المدني. بما يعني الإيمان بعظمة فرنسا، ورفض التبعية للولايات المتحدة، ورفض التوسع الكولونيالي، وإقامة علاقات ودية ومتوازنة مع دول العالم.
وبهذا المعنى، رفض شيراك بشدة الانضمام إلى الولايات المتحدة في حرب بوش الابن على العراق 2003، وكان مركز المعارضة لهذه الخطوة. قائلاً عشية الحرب: «إن غزو العراق، سيفتح أبواب الفوضى والإرهاب على مصراعيها».
فشيراك كان يدرك تماما، ماذا تعني إزالة العراق العربي من معادلة التوازن الإقليمي.
وبهذا المعنى، دافع جاك شيراك الذي يوصف «بشيراك العرب» عن الحقوق الفلسطينية، وعن أرض فلسطين، وعن القضية الفلسطينية، لأنه كان يعرف ألا استقرار في الشرق الأوسط دون حل عادل للقضية الفلسطينية. وكان يستقبل الزعيم ياسر عرفات في قصر الإليزيه، بصفته رئيسا للدولة الفلسطينية.
وبهذا المعنى، انفجر شيراك غاضباً بوجه قائد الشرطة الإسرائيلية الذي حاول التضييق عليه خلال زيارته للبلدة القديمة في القدس المحتلة العام 1996، وقال له بنبرة ساخطة: «هل تريدني العودة بطائرتي إلى باريس». وذرف دمعة على الزعيم الراحل ياسر عرفات، في مستشفى بيرسي العسكري في فرنسا.
وفي كتاب «شيراك العرب» للكاتبين إريك إيشيمان وكريستوفر بولتانسكي جاء: «يحضر ضابط الإليزية، الذي شارك في حرب الجزائر بشكل تطوعي، كأكثر زعيم أحبه العرب»، وستكون صيحة الغضب ضد الشرطي الإسرائيلي، بمثابة نقطة تحوّل، وستجعل من الرئيس جاك شيراك أسطورة، وستطبع سنوات عهده السبع وستحدّد على الدوام صورة الرئيس في المنطقة».
كان شيراك الزعيم النيوديغولي الذي شكل وقاد «التجمع من أجل الجمهورية»، وقد كان خليطاً من عدة تيارات ديغولية يمينية ووسطية وحتى يسارية، مشدوداً لعلاقات معقدة مع المستعمرات الإفريقية السابقة باعتبار أن «أمور إفريقيا وهمومها هي من عظمة فرنسا» ومن مسؤوليتها الأخلاقية الخاصة، حسب التعابير الديغولية المستعملة.
قال مسؤول فرنسي كبير، «إن شيراك يلتهم أفكار الجميع»، فبعد أن كان شيراك مناهضا للاتحاد الأوروبي، أصبح من أشد مؤيدي الوحدة الأوروبية. وخاض الانتخابات الرئاسية العام 2002 متخذا منحى يساريا ومتعهدا «بمداواة الكسر الاجتماعي»، ولكنه ما لبث أن عين وزير مالية من اليمين.
ومن السهل القول، إن شيراك كان آخر كبار الرؤساء الفرنسيين.
