تُعلّق حركة «حماس» أمالاً كبيرة بأن يؤدي إعادة تعريفها لنفسها، بأنها حركة وطنية فلسطينية إسلامية، إلى البدء في مرحلة تحسين العلاقات مع المحيط العربي، وأن يقبلها الغرب على أنها حركة معتدلة وقادرة على الانخراط في مشاريع التسوية. وأظهرت المنصة السياسية الجديدة لـ»حماس» أن الحركة استوعبت متطلبات العمل السياسي وشروطه وأدواته، وشكلت الوثيقة تطوراً نوعياً مقارنة بميثاق الحركة الصادر عام 1988 لجهة الفكر والمقاربة واللغة والصياغة، فـ»حماس» بدت في وثيقتها 2017 وكأنها تخرج من النص الديني الغارق في السرد الإنشائي إلى فضاء السياسة والعلاقات الدولية والتحالفات، في أقرب ما يكون إلى مشهد إعلان نهاية الأيديولوجيا الدينية كمحرك أساس للدول والجماعات والأحزاب، تماماً كما أعلنت وثيقة الاستقلال الفلسطينية عام 1988 ،نهاية الأيديولوجيا القومية. فقد تم استبدال التوصيفات والمصطلحات الدينية بمصطلحات سياسية، فبدلاً من «المجتمع المسلم» فهو في الوثيقة الجديدة «الشعب الفلسطيني»، «الجهاد»، «المقاومة»، «الدول الصليبية»، «الغرب»، «فلسطين وقف إسلامي»، «هي أرض الشعب الفلسطيني»، والأبرز الذي حملته الوثيقة هو إعادة تعريف الصراع «من المعركة ضد «اليهود أحفاد القردة والخنازير» إلى «الصراع ضد المشروع الصهيوني». ويرى المراقبون أن تجاوز «حماس» التوصيف الديني للصراع مع إسرائيل، لن تقف حدوده عند الثكنة الإسرائيلية، بل إن حركة «حماس» ستكون مطالبة بإجابات حول قضايا داخلية. المسار الثاني الذي أنتج وثيقة «حماس» هو انهيار جبل الثلج الإخواني والعزلة الدولية والعربية التي تشعر بها، وهي تحاول في الوثيقة الانتصار لنفسها وفك الطوق عنها عبر توطين الحركة الإسلامية، وفك الارتباط بين المثالية والواقعية، وبين البطولات العسكرية والإنجازات السياسية، وهي بذلك تعزف على وتر مقولة السياسي النمساوي الشهير «مترنيخ» أثناء غزو نابليون لأوروبا واضطراره لمهادنته في بادئ الأمر: «إن شعرة رفيعة تفصل بين البطولة والتخاذل». وتزامن صدور وثيقة المبادئ والسياسات مع انتخاب قيادة جديدة لـ»حماس» على رأسها إسماعيل هنية، ويحيى السنوار في مسعى من الحركة لإظهار مرونتها الجديدة وانحيازها إلى الجزء المعتدل من الخارطة السياسية الشرق أوسطية، وهي بذلك تتوسل إقراراً دولياً بدورها السياسي ومكانتها القانونية وسلطتها الشرعية على غزة ولاحقاً على الضفة. وهذا ما ظهر جلياً في حديث خالد مشعل لمحطة «سي.أن.أن» الأميركية في لحظات مغادرته لرئاسة المكتب السياسي، والتي قال فيها: إن على الرئيس ترامب أن يلتقط الفرصة ويتعامل بجدية مع حركة «حماس». وليس فقط ما عرضه أفيغدور ليبرمان على «حماس» وهو: وقف بناء الأنفاق، والكف عن إطلاق الصواريخ، مقابل رفع الحصار والمساعدة في فك ضائقة قطاع غزة الاقتصادية والموافقة على تشييد ميناء غزة، وهو ما رد عليه محمود الزهار بأن الفلسطينيين لو أرادوا بناء سنغافورة في غزة، فسوف يبنونها بأيديهم وليس بمنة من أحد. غير أن ما تطرحه «حماس» في وثيقتها أقل بكثير مما هو مطلوب غربياً وأميركياً وما تم عرضه على طاولة أوسلو وكامب ديفيد وما هو مطروح الآن على طاولة الرئيس ترامب – وأبو مازن. وهو أقرب ما يكون إلى البرنامج المرحلي من عشر نقاط الذي طرحته منظمة التحرير الفلسطينية 1974، أو عندما تحدثت المنظمة في وقت لاحق عن سلطة الشعب الوطنية المقاومة على أي جزء يتم تحريره، دون صلح أو اعتراف أو تراجع عن حق العودة. أو إلى برنامج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي أقرته في مؤتمرها الرابع عام 1980 بعد خصم البعد الديني والاجتماعي. وعلى كل حال ،سواء تغيرت «حماس» إستراتيجياً أو تكتيكياً، يبقى جوهر الموضوع هل تغيرت الحركة بالمعنى الإيجابي؟! أي وجود قرار لدى «حماس» بالانخراط بالمؤسسة الوطنية الفلسطينية، والنظام السياسي الرسمي حتى لو كان من موقع المعارضة، أم بالمعنى السلبي؟! أي أنها تطرح نفسها كبديل عن السلطة الفلسطينية والمنظمة أو ككيان مواز في الشرعية والقانونية. المؤشرات تقول: إن الأولوية عند «حماس» هي تطوير علاقتها مع المجتمع الدولي، وليس ترميم علاقاتها الداخلية فلسطينياً في محاولة لتوظيف هذا التطور في العلاقات الخارجية للضغط على الحالة الفلسطينية وتعميق الانقسام، وإن حركة «حماس» تسلك المسار السلبي؛ إذ إنه ليس صدفة أن تعلن «حماس» تشكيل حكومة موازية في قطاع غزة- اللجنة الإدارية– في وقت إعلان زيارة أبو مازن لواشنطن والحراك الدبلوماسي النشط، وحديث ترامب عن صفقة تاريخية لتسوية الصراع، وقيام «حماس» باستغلال مهرجانات دعم إضراب الأسرى في غزة لشن حملة ضروس على الرئيس أبو مازن، من خلال حرق صوره ورفع شعارات مسيئة وغير وطنية ضده على خلفية أزمة رواتب موظفي غزة وتهديدات الرئيس باتخاذ إجراءات غير مسبوقة ضد «حماس» إذا لم تحل اللجنة الإدارية. فيما اعتبرت قيادات «حماس» أن السلطة الفلسطينية تقوم بتنفيذ سياسة «إسرائيلية أميركية» بتشديد الحصار المالي على غزة، وذلك للضغط على أهالي القطاع للانفضاض عن المقاومة. صائب عريقات وفي ندوة له على هامش أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي في البحر الميت، نفى أن تكون الإدارة الأميركية وراء الضغوطات المالية والاقتصادية على حركة «حماس»، وأكد أن هدف السلطة الفلسطينية من وراء ذلك هو ضمان وحدة فلسطين وأنه لا دولة في غزة ولا دولة دون غزة ،وأوضح عريقات أن المسألة ليست تخفيض فواتير الرواتب أو قطع التيار الكهربائي عن القطاع، ولكن المطلوب من «حماس» في الوقت الحالي هو التوصل لحكومة وحدة وطنية. وربما تكتمل الصورة أكثر فأكثر إذا دققنا النظر في توجهات قائد «حماس» الجديد يحيى السنوار في القطاع، وخطواته التصحيحية والتقشفية لاستعادة وهج الحركة وحاضنتها الشعبية، لنصل إلى استنتاج بأن «حماس» ذاهبة في خيار دويلة غزة إلى أقصى مكان.
